مُثقلاً بما على كتفي كثقل الأرض على كتف أطلس، و كورقة جفت في مطلع سبتمبر ظلت تقاوم أشهر الخريف برياحها القبلي ثم سقطت فحملتها الرياح في شوارع وأزقة لا تعرفها… مشيت أنا، لم أسقط… أو بالأحرى سقوطي كان قبل ذلك، منذ أن بدأت تلك الغربة ومنذ أن بدأت الغربان تحلق فوق منارة اخريبيش تلك. أجزم بأن طيور النورس كانت تطوف حول فنار المنارة الصدئ قبل أن تحل الغربان محلها كأنهن نسوة توشحن بالسواد حزناً على المنارة، أو على قبورها، أو على المدينة كلها. كل هذا وذاك ممكن، ولكن لماذا لا يرى الحوات العجوز ذو القبعة البائدة هذه الغربان، ولماذا تصر هذه الطفلة على أن تشير نحو السماء بفرح وسرور مناديةً طيور النورس؟ ألا تعرف بأن النورس أبيض؟ أم أنهم كلهم لا يرون الغربان؟
تهبط الطائرة في مطار بنينا في فجر يوم الأحد، يغني بونقطة في أذني متسائلاً “ريتي كيف تفارقنا؟”. لا أعرف سر العلاقة بين سفري، وبنغازي، والفجر. في رحلتي الأولى كان الوقت فجراً، خرجت من بنغازي في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، الظلام كان يعم المكان، انطفاءٌ عام للشبكة الكهربائية حال بيني وبين رؤيتها للمرة الأخرى، منعني من النظرة الأخيرة، لم يقف أحدٌ لوداعي، ولم تكن هي موجودة لتودعني، كانت نائمة، جميلةٌ في نومها رغم كل جراحها.
رحلتي الثانية لم تختلف كثيراً عن الأولى، أما الثالثة فكانت مختلفة، كانت الشمس قد أشرقت، والكهرباء على غير العادة موجودة، لكنها كانت نائمة مرة أخرى، الساعة السابعة صباحاً، الشوارع تكون شبه خالية في هذا الوقت من أيام رمضان. روادني الشك وخشيت في الحصول على سيارة أجرة للمطار أصلاً، لكن ظنوني خابت، سيارة الأجرة تشق الطريق، يكلمني السائق عن شقيقه الذي كان يعمل حلاقاً، يتحدث عن فترةٍ ما في بداية الألفينات كان يسافر فيها لكوريا الجنوبية يشتري السيارات من هناك ليبيعها هنا، في فترةٍ كان سفر الشباب لكوريا والصين ظاهرةً جديدة. يتحدث عن حي الزيتون ثم يعود للحديث عن حلاق شقيقه الذي كان سبباً في تسمية شارع دبي كله بهذا الاسم. أصمت أنا وأنصت لحديثه، يحدثني صوتٌ بداخلي عن كل هذا، عن ذكرياتي في كل زقاقٍ يتحدث عنه، أعرفها جيداً، أعرف كل تفاصيلها، أرى تفاصيلها من الطائرة بينما تُقلع، من أعلى السماء، هي جميلة، هي أجمل منهم كلهم.
لا أعرف أيضاً يا صديقي سر ارتباط بونقطة بعودتي لبنغازي. لقد كان يغني في تلك الليلة من شهر أكتوبر في عام 2019 بينما كانت سماء قبرص تُمطر، هو يغني الآن في هذا الفجر بينما أنزل من درج الطائرة. لم يكن غيابي هذا عن بنغازي الأطول، لكنه كان الأَمَر. اشتقت لها اشتياق كل السكارى لغناء الصافي. أحاول جاهداً أن أُخفي اشتياقي، لكن هل يُفلح السكران في إخفاء ثمالته؟ لقد تغيرت بنغازي كثيراً عن ذلك اللقاء، لكنها ما تزال الأجمل، هي أجملهن حقاً، لكنها وعلى غير العادة تتجاهلني هذه المرة، تسير وكأنها لا تراني وكأنها لا تعرفني، وأنا؟… أنا لا أبالي بكل هذا حقاً، أسير غير مبالٍ، أعود لعهدي الأول، أرى في عينيها كل أحلامي نهاراً، ثم أجلس ليلاً تحت حرارة الصيف وضوء القمر أشرب الشاي، وأكتب، عن ماذا أكتب؟ لا شيء محدد، أكتب كما كنت أفعل في ليالي صيف الحرب.
ستسأل يا صديقي البعيد عن العين عن كل هذا، وسأخبرك يا صديقي الدائم الوجود في البال عن كل هذا، وسأكون مُنصفاً، أعدك بأن أكون منصفاً، بحق سنة الحرب تلك، وبحق كل أكواب المكياطة التي شربنها معاً في يومٍ صيفيٍ ارتفعت فيه أصوات المولدات كما ارتفعت درجة الحرارة، عندما كنا مُشردين لا منزل لهما يجلسان في القهوة من زوال الشمس وحتى العشاء، بحق كل علب السجائر التي قسمنها معاً، سأقف هنا لأكون منصفاً، لعل هذه الغربة تنتهي.
يوم جمعة حار، رفضت الكهرباء أن تعمل فيه أسوةً ببقية الناس، فوجدتني استيقظ صباحاً حانقاً كارهاً كل شيء حتى انعكاس المرأة. جولة صباحية في أزقة المدينة، أراها هناك، يلتف وشاحها في كل زقاق وشارع، وأراني، أرى نفسي فيها، في شوارعها، في جدرانها، في بحرها وسمائها، صامتة وموحشة وخالية، ورغم كل هذا هي أكثرهن دفئاً وعطفاً، هي كل هذا، تمتد بي الذكريات حتى تعود لتونس.
أسير من جديد في شوارع المرسى، الشوارع التي حفظتها بحثاً عن الذكريات، لا أعرف إذا ما كانت السماء أمطرت، ولا أعرف إلى أين أسير، أعرف بأن اليوم خميس وبأن الصافي قرر أن يعاتب عينه مرةً أخرى وكأنه لا يمل من ذلك، وكأن عينه لا تتوب، وهل تتوب العين؟ وقف الناس ومشوا بجوار البحر، لكن الطريق كانت خالية لم يكن هناك إلا أنا، وكانت هي حاضرة… لم تغب يوماً، بنغازي، يا أول حبيباتي، أو يا من تبقى منهن، أقف هنا مواجهاً البحر معتذراً منك، لمتك على تغيرك كثيراً، فاعذريني على تغيري، اعذريني لأنني لم أعد أنا، لكنني وكما قد تعرفين قد تغربت، ولم تنته غربتي بعد، ولا أظنها تنتهي عما قريب، لقد صارت الأفكار تحاصرني حتى صرت أخاف أن أبقى لوحدي بينها، وصرت أخاف المستقبل حتى وقفت في مكاني. أعذريني لأنني لم أعد أحبك كما قبل، لكنني أخاف الحب أيضاً، أخاف أن ترحلي كمن رحلوا، أخاف ألا أكون الحبيب الذي تريدين، ولا أحب ذلك، كما لم أعد أحب نزواتي هذه، وكلماتي هذه، لم أعد أحب الكتابة حقاً، ولم أعد أجد شيئاً أكتب عنه سوى الغربة، وقد مللت هذا، وقد مل الناس منه أيضاً.
ماذا فعلت كأس الشاي برأسي؟ لا أعرف.
ربما وضعتني فقط أمام نفسي، واجهتني بأفكاري هذه، لكنني قطعاً سئمت كل هذا، سئمت الغربة، وسئمت البحث عنك، بنغازي، يا كل حبيباتي، يا من تبقى منهن. ها أنا ذا، ابنك، أقف أمام منارتك فاتحاً صدري لهواء بحرك، أُشهد البحر بأنني عدت، وأشهده بأن قلبي عاد لك، هو لم يغادرك أبداً، فهل تقبلين به؟
Comments