top of page

31

ahmedobenomran

أيها العابر للسبيل المار من أمام هذه الكلمات٬ نقف هنا مرةً أخرى٬ للمرة السادسة نجتمع هنا في شهر يناير٬ كنت قد بدأت هذه العادة -أن أكتب في يوم ميلادي- قبل خمسةِ أعوام٬ لم يكن بنيتي حينها أن يُصبح هذا الأمر عادة٬ لكنني دوماً ما وجدت سبباً أو كلاماً يدفعني لهذا٬ حنينٌ للماضي أحياناً٬ حنينٌ لمن رحلوا مع الماضي٬ عتابٌ لبنغازي أحياناً٬ وعتابٌ لأحمد الطفل الأحمق أحياناً أخرى٬ كلماتٌ صعب على الفم نُطقها لخوفٍ أو لحواجز أخرى٬ وأحياناً مزيجٌ من كل هذا معاً٬ المهم أنه في كل مرةٍ كان هناك دافع٬ وفي كل مرةٍ كان يناير سبباً لوجود هذا الدافع٬وكأن هذا اليوم وهذه الكلمات تحولت لمذكرات سنوية أكتبها لأسجل وأوثق لحظاتٍ وأفكارٍ عشتها لعلني أعود بعد أعوام لقرائتها.


في هذا العام٬ وقبل ساعاتٍ بالتحديد لم أجد ما يستحق الكتابة٬ وظننت بظن الإثم بأن هذه العادة ستغيب لهذا العام٬ لم يتغير شيء منذ عام٬ لم يحدث شيءٌ يستحق الكتابة…أو هذا ما ظننته٬ لم يكن من عاداتي أن أعتكف في المنزل ليلة الخميس٬ لم أكن من الذين يحبون البقاء بين الجدران في يوم الخميس٬ ولكن في هذا الخميس -كما فعلت في كل الأسابيع التي سبقت- أجلس في الشقة تجنباً للزحام الذي يجعلك تفكر ألف مرةٍ في الخروج٬ مستريحاً من إرهاق الأسبوع متجرعاً أكواب قهوة في أوقاتٍ مُحرمة في أيام الأسبوع الأخرى٬ أشاهد مبارة مانشستر يونايتد٬ العادة التي اكتسبتها بعد أن شاهدت مبارةً بالصدفة للفريق ترفض ذاكرتي أن تجود علي بتحديد المبارة أو في أي عامٍ كانت٬ كل ما أذكره بأنني ولسببٍ ما ارتبطت بهذا الفريق حتى وصلنا ليومنا هذا٬ بين الشوطين أخرج للشرفة مراقباً للبحر ومتأملاً في ازدحام طرابلس٬ وبدون سابق مقدمات وتحذيرات٬ انتبهت فجأةً بأن الكثير قد تغير في هذا العام٬ ولنبدأ بأبسط ذلك الكثير٬ انتقلت لطرابلس.


لا أذكر أيضاً كيفية انتقالي لطرابلس٬ ولا أدري كيف لتفصيلٍ صغيرٍ كهذا أن يغيب عني٬ نمت ذات ليلةٍ من ليالي رمضان الفائت في بنغازي٬ استيقظت صباحاً كأي يومٍ عادي٬ حملت حقيبتي وخرجت نحو المطار٬ ركبت الطائرة التي أقلعت من بنغازي وهبطت في طرابلس٬ وهكذا انتقلت٬ لم يكن الأمر بتلك السهولة طبعاً٬ فليس من السهل أن تجد تاكسي في السابعة صباحاً في بنغازي في رمضان وليس من السهل أيضاً أن تجد سائق تاكسي قليل الكلام في أي وقتٍ وأي مكان٬ سائق التاكسي لم يتوقف عن حديثه عن حي الزيتون وكيف أن الحي قد تغير كثيراً -ككل شيءٍ تقريباً- أشاركه الحديث عن حي الزيتونة وعن الفويهات التي كبرت فيها٬ أتعرف على بعض من يسميهم٬ أتجنب الحديث عن مرات وقعت فيها في مشاكل تصل لمحاول السرقة والعراك مع أشخاصٍ من ذات الحي خوفاً من أن يكون هو أحد هؤلاء٬ نهاية المطاف أنني وصلت طرابلس وبدأ في ذلك اليوم سطرٌ جديدٌ من قصتي يكون في طرابلس هذه المرة.


علاقتي بطرابلس تختلف عن علاقتي ببنغازي قطعاً٬ ذكراي الأول عن طرابلس تعود لإحدى المرات التي سافر فيها والدي لطرابلس٬ صورة طرابلس في مخيلتي حينها كانت مُختزلة في "استراحة الشركة"٬ مبنى الشركة٬ ومحل ألعاب اشترى لنا والدي هدايا منه٬ هذا كل ما تخيلته في طرابلس٬ ولم أتخيل شيئاً غير هذه المباني الثلاثة٬ ولم أفهم حينها بأن طرابلس مدينةٌ كاملة لها شوارعها وأحيائها وسكانها كبنغازي٬ كطفلٍ في ذلك العمر لم أكن أتصور وجود شيءٍ في العالم خلف حدود بنغازي وبحرها٬ ولم أفهم أيضاً لماذا يتوجب على والدي أن يبيت هناك٬ لماذا لا يذهب في الصباح لطرابلس ويعود في المساء لنا؟٬ ربما أخبرتني أمي بأن طرابلس بعيدة٬ وربما أجبتها "أبعد من القوارشة يعني؟".


تغيرت نظرتي تلك عن طرابلس عندما وصلت لطرابلس ذات ليلة من ليالي ديسمبر سنة 1999 بعد أن عبرت بنا حافلة السوبر جيت من شرق البلاد لغربها٬ فهمت حينها أن طرابلس بعيدةٌ حقاً٬ وأنها مدينة كبنغازي رغم أنني لا اذكر منها في تلك الزيارة الا مطعم بيتزا والميناء الذي سافرنا منه لمالطا٬ ومطارها الذي عدنا منه لبنغازي لاحقاً في المرة الأولى التي أركب فيها الطائرة٬ تضع لي ذاكرتي هنا ملاحظة هامة٬ زيارتي الثانية لطرابلس تكررت سنة 2009 في زيارة كشفية٬ ثم سنة 2019 في طريق عودتي من قبرص٬ وبين كل زيارةٍ وزيارة عشر سنواتٍ كاملة٬ وبين كل زيارةٍ وزيارة مشاعر وأفكار مختلطة٬ الفضول في المرة الأولى٬ الحماس في المرة الثانية٬ والخوف من مستقبلٍ وأرضٍ أعود لها بعد أن أنهيت درساتي في المرة الثالثة٬ وفي الأخيرة هذه كنت أكثر قلقاً وخوفاً من هذه المرة التي انتقلت فيها للعيش في طرابلس٬ المهم أنني انتقلت هنا٬ وصرت كأكثر التعبيرات ركاكةً٬ جسداً يعيش هنا٬ روحاً بقيت في بنغازي وقلباً يجتاحه البرد فيلف حوله الكوفية الخضراء رفيقة سنوات الثورة والغربة وأكثر الأشياء دفيءٍ٬ هي حتماًَ المحرمة التي غنى عنها الصافي قائلاً 


"كنك مشيتي المحرمة خليها

 كني بكيت نمسح دموعي فيها"


لم أكن أعرف انني بانتقالي هذا سأكون أسير في خطوةٍ أخرى سبقني لها والدي٬ لنتشابه في أمرٍ أخرٍ بعد استماع كلانا لكات ستيفنس والشيخ إمام٬ ليكون كلانا ترك بنغازي -محبوبتنا- ووجد نفسه غريباً بين شوارع العاصمة مُستغرباً من شوارعها واختلاف ناسها عن ناس بنغازي٬ ولم أكن أعرف بأني ذاكرتي الأولى عن طرابلس ستكون واقعي اليوم٬ فهنا أنا ذا بعد أعوامٍ من الليلة التي وصلت فيها لطرابلس للمرة الأولى أسكن في ذات الحي الذي كانت فيه "استراحة الشركة" بل وبالقرب منها أيضاً٬ أرى الميناء من شرفة منزلي وأمر من أمامه كل يوم٬ لم يغب إلا حلم ذلك الطفل ومطعم البيتزا الذان لا أعرف لهما طريقاً اليوم.


هذا ما أتذكره أنا عن طرابلس٬ أما عن ما حصل قبل أن تقرر ذاكرتي تسجيل كل شيءٍ أعيشه٬ فقد قيل لي بأنني زرت طرابلس ذات مرةٍ عندما كان عمري لا يتجاوز العامين٬ عبرت بينا سيارتنا الحمراء الطريق من بنغازي لطرابلس٬ يقود والدي٬ يجلس خالي بجانبه٬ وأنا تحتضنني أمي في المقعد الخلفي٬ سبب تلك الرحلة كان بحثاً عن فرصةٍ وكرمٍ من السجان يسمح لنا برؤية خالي الأخر٬ رحلتي الأولى لطرابلس كانت رحلةً لسجن أبوسليم الذي رحلت أيامه ورحل صاحبه وبقيت سمعته٬ تتحدث أمي عن السجن حينها وعن شخصٍ يسكن بجانب السجن يفتح باب بيته لعائلات المساجين مِن مِن طال انتظارهم لإذن دخولهم٬ فيستريحون قليلاً من تعب السفر والانتظار٬ يفعل ذلك دون مقابل ورأفة منه بمن عذب سجن الأحباب قلوبهم٬ تتحدث أيضاً بأنني لم أنم أغلب الطريق٬ ولم أنم في طرابلس٬ ولم أقرر النوم إلا عند دخولنا للسجن٬ قد يقول المنطق والعلم بأنني نمت تعباً مُرغماً بعد تعب السفر٬ وسأقول بأنني نمت مستهزئاً بالسجن والسجان الذي بذل ما في وسعه ليرعب كل البالغين هنا٬ لكنه يعجز عن اخافة طفلٍ صغير فينام الطفل هانئاً قريراً وسط جدران السجن ساخراً منها٬ وفي الوقت الذي كان فيه الكبار يتهامسون خوفاً من الحراس٫ تقرر طفلةٌ أخرى الاستهزاء بهذا الخوف فتصيح في وجه الحراس تأمرهم بأن يُطلقوا سراحه عمها سائلةً اياهم عن سبب سجنهم له؟ فيصمت الحراس٬ ويبتسم المساجين وعائلاتهم لهذا الانتصار٬ وينكسر جدار الخوف الذي بُني لعقود على يد طفلين.


كل هذا جال بخاطري في شرفة الشقة٬ كل هذا تسلسل أمامي بعد تلك الملاحظة الأولى٬ تغير الكثير إذن؟٬ عامي الأول بعد الثلاثين انتقلت فيه لطرابلس٬ عشت معظمه في شوارع لا أعرفها لكنها تشبه قليلاً شوارع قديمة أعرفها٬ أوسع منها قطعاً٬ لكنها أقل منها دفئاً٬ على عكس العادة٬ يكون لي في هذا العام فكرةٌ وهدف٬ للمرة الأولى أواجه الحياة بنظرة مختلفة٬ ماتزال ساخرةً لحدٍ ما بالطبع٬ لكنها مختلفة٬ انتظر في هذا العام أن أُمسك بجموعتي القصصية الأولى٬ أقف على ناصية الثلاثين باحثاً عن تجارب جديدة بقلبٍ ظننته توقف عن فعل ذلك منذ سنوات٬ ساعياً لأنهي روايتي الأولى مستمراً في طريقٍ رسمه لي ذلك الطفل الذي قرأ لخليفة الفاخري قبل عقدين من الزمن٬ أقف في هذه الشرفة ناظراً نحو البحر مُرسلاً شوقاً لأولى حبيباتي و من تبقت منهن٬ لبنغازي التي قلت عن سكانها قبل عام أيتام الأحلام والأمال٬ ولكن أحلامنا وأمالنا عادت٬ يقودنا في ذلك الصافي الذي كان كل ما يحلم به أثناء غنائه في هذه الليلة


"زولاً بغاني ان شاء الله نمشيله

يصدق منام العين قبل الميلة"


ومن غير الصافي يعبر عنا ويصف حالنا؟

54 views0 comments

Recent Posts

See All

30

Comments


bottom of page