تبدأ القصة من هناك، من نهاية الشارع حيث ذاك الكشك الصغير
هل تراه؟
أعني هل ترى جدرانه الخضراء الباهتة؟
هل ترى لافتته التي لم يبق منها شيء سوى (للمأكولات الشعبية)؟
هل تشعر بنسمات البرد الأتية منه؟
هل ترى صاحبه؟
نعم هو ذلك العجوز الذي يمشي باتجهه على مهلٍ كأنه يخاف ان يُزعج النمل بخطواته
هل تراه يقف أمام باب المطعم المُغلق يُفتش جيوبه بحثاً عن المفتاح؟
يضع يده في جيبه الأيمن بحثاً عنه فلا يجده
يُفتش عنه في جيبه الأيسر فلا يجده هناك أيضاً
يعود لجيبه الأيمن فيجد المفتاح هناك كأنه ظهر هناك من العدم
يُخرجه ليفتح الباب
هل ترى ضوء المحل الابيض؟
هل ترى صاحبنا العجوز يخلع معطفه الأسود ليلف مئزره الأبيض؟
دعنا نقترب منه
هل تصل رائحة الفلفل الأكحل وكمون الحوت لأنفك؟
تبدأ قصتنا من هنا في زمنٍ مضى، عندما كان هذا المئزر أبيض فعلا، قبل أن يكون هذا الكشك، وقبل أن يكون هذا الشارع أصلا.
تقول القصة بأن شاباً كبرُ يتيماً وقف صباح ذات يوم أمام مدرسة بنغازي الثانوية بنين يبيع أنصاص (شطائر) الفول والفاصوليا على تريشيكلو (دراجة هوائية بثلاث اطارات)، يستيقظ الشاب كل فجرٍ ليُحضر أرغفة الخبزة الدائرية ثم يتجه لمطبخه الصغير ليبدأ في اعداد الفاصوليا والفول، يلف كل طنجرة منهما ببطانية وكأنهما رضيعين ليحافظ على حرارتهما، يضع اشيائه في صندوق الدراجة ثم ينطلق نحو المدرسة، يُلقي التحية على كل من يقابله، رجل المرور، مختار المحلة، ادريان الحلاق اليوناني، كلهم، يصل للمدرسة فيقف مُنتظراً خروج الطلاب في استراحتهم.
هل تراه واقفاً بجانب سور المدرسة؟
نعم في تلك الصورة المُعلقة على الجدار، نعم هي تلك الصورة الغير ملونة، اذا امعنت النظر سترى مئزره وابتسامته.
لم يمض على وصوله سوى شهران قبل أن يُصبح الطلبة يتدافعون نحوه في كل استراحة، محاولين شراء ما يريدون والعودة بسرعة لداخل المدرسة قبل أن يُغلق اسماعيل الفراش الباب، لم يمض عامٌ قبل أن يصبح وجهةً حتى لموظفين الدوائر الحكومية القريبة.
يعرف الطلبة جميعاً، يسألهم عن دراستهم بينما يجهز لهم أنصاصهم
يُدردش مع استاذ عبد الله المصري عن أخبار مصر وأحوالها، هو الذي عرف مصر فقط من حكايات عمه الذي عاش هناك قبل الحرب فاراً من حُكم اعدامٍ صدر بحقه من الحاكم الايطالي.
يسأل منعم المخلص الجمركي عن اخبار الميناء والبضائع، عن موعد البابور القادم، وعن حمولة البابور.
يُصلي الظهر في المسجد القريب قبل أن يتجه عائداً لبيته بعد أن أنهى دوامه الأول
يتناول الغداء
يُقيل
ثم يبدأ في التجهيز لدوام المساء.
هل تشعر بالبرد؟
هل وصلت رائحة البحر لك؟
في المساء يقف هناك، بجانب السينما، يبيع ذات الأنصاص لرُوادها، لم يمضِ عامٌ على وقوفه هناك قبل أن تنشأ صُحبة بينه وبين اسماعيل الفراش -هو اسماعيل نفسه فراش المدرسة، فقد كان المذكور فراشاً يحث الطلبة على الاسراع بالدخول حتى لا تفوتهم حصصهم، ويحث رواد السينما ليلاً للاسراع حتى لا تفوتهم فاتن حمامة- فبات في مقدوره التسلسل من الباب الخلفي ليشاهد الأفلام المعروضة خلسة، قبل الفيلم وبعده، يقف أمام القاعة رفقة عددٍ من الباعة الأخرين، تختلف بضاعتهم، منهم من يبيع المشروبات باردها وساخنها، من يبيع المكسرات، وهو، بائع الأنصاص، يبيعها للخارجين من السينما في بدلهم الافرنجية الجديدة، للسكارى العائدين لبيوتهم، وللجنود الانجليز.
هل ترى عبوسه كل ما اقترب منه افرنجي؟
لم يفارق سور المدرسة وقاعة السينما طيلة أيامه، حتى عندما مر الملك من هنا، وقف بدراجته عند سور المدرسة صباحاً، واتجه للسينما مساءً، بالرغم من تنبيهات زبائنه بانهم لن يكونوا هنا
"سي ادريس جاي بكرا"
هذا ما قال له اسماعيل الفراش، لكنه لم يهتم، فسي ادريس لن يشتري منه شيئاً.
هل ترى تلك الندبة على رأسه؟
تلك التي يخفيها بإمالة قبعته
تلك ندبةٌ حصل عليها في يومٍ من أيام يناير سنة 65، في ذلك اليوم كان قد وقف منتظراً خروج الطلبة كالعادة، لكن الطلبة لم يخرجوا، تأخروا قليلاً في خروجهم، ثم سرعان ما خرجوا جميعاً، لم يخرجوا للافطار ولا طلباً للفاصوليا، خرجوا في ما بدا كمظاهرة، يحتج الطلبة على عدم حضور الملك لاجتماع القمة العربية، لم تبتعد المظاهرة قليلاً قبل ان تبدأ قوات الشرطة في مهاجمتها.
تدافع
اشتباك
سقوط
دماء
ترك على الفور عربته واتجه مسرعاً نحو احد الطلبة يدفع عنه رجال الشرطة الذين تحلقوا حوله وانهالوا عليه ضرباً بعصيهم
" العيل حيموت يا كلاب"
قبل أن يُنهي جملته كانت احدى العصي قد استقرت على رأسه فسقط مغشياً عليه يسيل الدم من رأسه على أرض الشارع ممُتزجاً بماء المطر ودماء طلبةٍ قد سقطوا ولم ينهضوا بعد ذلك.
استيقظ بعد ذلك في المستشفى لا يدري عما حدث، لا يدري عن مصير الطالب الذي ركض مسرعاً لنجدته، ولا عن مصير الطلبة الأخرين، والاهم من هذا وذاك، لم يدري ما مصير دراجته التي ادخلها اسماعيل الفراش لداخل المدرسة خشية ان تُسرق، بعد ما حدث في ذلك اليوم، انسحبت الشرطة من الشوارع خوفاً من ردة فعل الناس، أما هو فقد عاد ليقف في ذات المكان واضعاً ضمادةً على رأسه.
هل ترى تلك الصورة الأخرى؟
حيث يقف بجانب ما يبدو أنه ملعب؟
تلك كانت الليلة الوحيدة التي ترك فيها مكانه بجانب السينما، تلك كانت الليلة الوحيدة التي لم ينتظر فيها الخارجين من الافلام، هي الليلة الوحيدة التي لم يشم فيها رائحة الكحول الخارجة من انفاس السكارى، ولم يعبس فيها في وجه افرنجيٍ واحد، لم يعبس فيها في وجهٍ أحدٍ تقريباً، كانت تلك الليلة ليلة حفلة اقامتها أم كلثوم في مدينة بنغازي في الملعب الذي يظهر خلفه في الصورة، تلك الليلة فقط ترك مكانه بجانب سينما النهضة قبل أن يعود له في اليوم التالي.
هل ترى تلك الشهادات المعلقة في منتصف الجدار؟، نعم تلك الأوراق الأربع التي تحمل كلً منها اسماً مختلفاً لذات البلد؟
أقدمها المُوسمة باسم المملكة الليبية وأخرها تلك الصادرة في دولة ليبيا وبينهما الجمهورية والجماهرية الليبيتان أيضاً، هي الشهادات التي تحصل عليها صاحبنا العجوز ليفتح مطعمه، كان قراره هذا قد جاء اواخر ربيع عام 1968 أراد حينها البحث عن طريقةٍ لا يكون فيه عمله مرتبطاً بدوام المدرسة والطلبة فتقدم بطلبٍ للبلدية حتي يُقيم كشكه في الحديقة المقابلة للمدرسة بالقرب من الدوائر الحكومية، ثم انتظر
وانتظر
وطال انتظاره
وحصل على الاذن، كان ذلك في صيف عام 1969، يقول على ذلك ساخراً بأن شهادة الاسلام لا تحتاج الا لبضعة ثواني، أم شهادة فتح مطعم فتحتاج لعامٍ كامل، لكنه افتتح المطعم، نعم هو ذات المطعم الذي نقف فيه اليوم انا وانت، هو المطعم الذي لم يغب عنه يوماً منذ ان افتتحه.
هل ترى هذا المذياع السوني القديم؟
نعم هذا الاسود الموضوع فوق الثلاجة.
لقد اشترى هذا المذياع مطلع عام 1970، كان قد خرج من السجن حديثاً بعد أن أمضى فيه ثلاثة أشهرٍ تقريباً، أما عن سبب سجنه فهو انه قد خرج صباح أول ايام سبتمبر سنة 69، استغرب قليلا ذاك الصباح من خلو الشوارع
"سي ادريس جاي؟"
قال لنفسه متسائلاً بينما هم يفتح باب مطعمه، لم تمض لحظات الا وكانت سيارة عسكرية تقف أمام المحل لينزل منها ثلاثة عساكر، هم أحدهم بسحبه من المطعم بينما اغلق الاخران المطعم
"ما سمعتش على حظر التجول؟"
قال له أحد العساكر في مكانٍ ما
" والله ياوليدي ما سمعت على شي"
يرد هو
" سي ادريس صارتله حاجة؟"
يسأل هو
"سيدك ادريس راح، ما سمعتش البيان؟"
يسأل العسكري
"والله يا وليدي ما سمعتش على شي"
يجيب هو مجدداً، ثم يضيف
"أي بيان؟"
"بيان الثورة، الثورة قامت، ما سمعتش الاذاعة؟"
يسأل العسكري
"والله يا وليدي ما سمعتش على شي، ما عنديش اذاعة"
يرد هو
ينهي العسكري تحقيقه معه، يُعيدونه لزنزانته، يبقي هناك حتى يتأكد سجانه بأنه لا علاقة له بالنظام البائد -كما صار اسمه-، وأنه هو و الفاصوليا التي صار يبيعها حصراَ بعد ان ترك بيع الفول لا علاقة لهم بالملك وحاشيته، ولا يُعادون الثورة ومجلسها بأي شكلٍ من الأشكال، وقد اكدت التحقيقات التي استمرت لأشهر بأنه مواطنٌ عادي يبيع الأنصاص لكسب قوت يومه ولا علاقة له بالوساطة والمحسوبية، وانهم لم يعن الاستعمار يوماً، بل واكد لهم بأنه كان يعبس في وجه كل افرنجيٍ يشتري منه شيئاً، وحلف لهم بالطلاق -رغم أنه أعزب- بأنه دافع عن الطلبة يوم احداث يناير وسب القاضي والحكومة التي وقفت تشاهد المتهمين بقتل الطلبة يهرربون من المحكمة دون حساب، وبعد كل هذا الحلفان والتأكيدات تم اطلاق سراحه، فاتجه فور خروجه لأقرب محلٍ يشتري منه مذياعين وضع أحدهم في البيت والاخر في المطعم حتى لا يفوته أي بيانٍ أخر.
هل ترى تلك الصورة في الزاوية؟
نعم تلك حيث يحتشد الناس على يمين ويسار الطريق
اذا امعنت النظر فيها جيداً سترى مطعمه في أقصى الصورة نصف مفتوح، كان ذلك يوم جاء رئيس مصر جمال عبد الناصر زائراً، لم يهتم لذلك القدوم ولم يخرج مُرحباً به كما فعل العشرات، دخل وأغلق مطعمه كما طلب منه رجال الشرطة، انهمك يحضر قدرين من طبيخة الفاصوليا بينما يستمع لأغاني الثورة القادمة من المذياع وهتفات الجماهير الواقفة في الخارج، ثم ماذا؟، ثم فتح مطعمه بعد أن رحل الموكب فتدافعت الحشود الجائعة بعد وقوفٍ لساعات تشتري منه ما تسد بها جوعه، لا يذكر حقاً ما كسبه في ذلك اليوم، ولكنه قطعاً كسب أكثر من ما كسبه كل الواقفين.
هل ترى اختلاف الطلاء على الجدار؟
نعم ذلك الذي شكل مستطيلاً فوق الثلاجة
يُقال بأن صورةً لصانع الثورة وقائدها كانت مُعلقةً هناك، يحكي العجوز بأنه علَّقها بعد في عامٍ ما بعد الغارة، قررت حينها البلدية أن تُزيل كل الأكشاك لتطوير المدينة، وتجميلها، صدر ذلك القرار بعد بضعة أسابيع قضاها في ملحمةٍ بين مكاتب البلدية ذاتها لتجديد ترخيص كُشكه، قرار الإزالة هب عليه كرياح القبلي، جلس في مطعمه شارد الذهن لا يدري ما يصنع، كل شيءٍ قريبٌ منه ومناسبٌ له، المدارس، المصالح الحكومية حيث زبائنه، وبيته الذي يعود له في نهاية اليوم رفقة ابنه معاونه في المطعم، بدأ في البحث عن دكانةٍ يستأجرها، لكن حملة تطوير المدينة المزعومة و السياسات الاقتصادية المتبعة حينها جعلت الأسعار مرتفعة، لم يُزل حزنه هذا الا وعدٌ أعطاه له منعم الذي كان يوماً ما مُخِّلصاً جُمركياً يوم دخل المطعم مرتدياً بدلة سفاري معروفةً في ذلك الزمان، طمنه قائلاً بأنه سيحل له المشكلة في يومين، وقد كان، بعد المدة المحددة بالضبط عاد منعم للمطعم حاملاً معها اسثناءً رسمياً من البلدية، طلب نصين فاصوليا مقابل الورقة فأعدهما له صاحبنا بابتسامةٍ غابت عنه في الأيام الماضية ثم هم خارجاً
"كيف حال الميناء يا منعم بالله؟"
سأل صاحب المطعم بينما يهم زبونه القديم بالخروج، أما رد الزبون فكان الضحك قبل أن يركب سيارته راحلاً، تعجب العجوز ونظر لابنه بحثاً عنده عن تفسيرٍ لضحك زبونه، لكن الاجابة لم تكن عند الابن، الاجابة كانت في صفحة جريدة عندما رأى منعم نفسه يقف بجانب صانع الثورة وقائدها، فتعلقت تلك الصورة -أعني تلك التي كانت في الجريدة- على الجدار، عرفاناً منه لصاحب الصورة ومن يقف بجانبه، وطمعاً منه بابعاد مضايقات الحرس البلدي اذا ما أخبرهم بأن من يقف في الصورة زبونٌ قديمٌ عنده، ولم تغادر مكانها الا عندما جاء ذلك اليوم…يوم خرج الناس.
هل ترى تلك الشهادة ؟
نعم تلك المرمية خلف صناديق الخُبز.
يوم خرج الناس لم يُغلق مطعمه، كان يقف أمامه يدخن سيجارته عندما مر الجمع من أمامه، ابتسم قليلاً، تذكر يوم خرج الطلبة من مدرستهم، حن لأيام شبابه، حدث نفسه ضاحكاً بأنه اذا ما هاجمت الشرطة أحد الشباب فلن يقوى اليوم على دفعهم والدفاع عنه، ولن يحتمل رأسه ضربةً أُخرى بعصا، لكنه أخرج للمارين قليلاً من قوارير الماء يروون بها عطشهم، دخل أحدهم للمطعم فرأى الصورة المعلقة فوق الثلاجة
"شن تدير هذي يا حاج؟"
سأل الشاب عن الصورة
"والله تبي تحولها حولها ما عندي ما ندير بها توا"
رد هو
نزع الشاب الصورة ورماها أرضاً قبل أن تجتمع عليها أقدام الخارجين.
لم يتوقف العجوز يوماً عن العمل طوال تلك الأيام، لم يتوقف عن اعطاء ابنه صندوقاً كاملاً من الأنصاص ليوزعه على من يقفون بالساحة، يطلب منه ابنه القدوم للساحة معه مراراً وتكراراً لكنه يرفض في كل مرة، يحدثه ابنه عن شخصٍ مهم سيأتي اليوم، لكن هذا لا يُغيير رأيه، يظل واقفاً في مطعمه لا يتركه الا عائداً لمنزله.
حتى قررت ادارة الساحة تكريمه لجهوده، استلم الابن التكريم نيابةً عنه، أخبر والده بعد ذلك عن أن الناس بدأت تقول بأنه ضد هذه الثورة ومع الثورة الأولى، رد عليه ساخراً ضاحكاً
"انا لا مع هذي لا مع هذي، أنا مع الفاصوليا واللي ياكل الفاصوليا"
علق شهادة التكريم مكان الصورة وظلت مكانها حتى اقفل المطعم مضطراً في عام الحرب، وبعد أن عاد لفتحه كانت الشهادة قد سقطت لسببٍ ما.
من هناك بدأت القصة حتى وصلت أنا وانت هنا، لهذه النقطة تحديداً، تحول التريشيكلو لهذا الكشك، تحول كل شيءٍ حوله وتغير، جاء ناسٌ ورحلوا، صار جيل الطلبة زبائنه الأوائل أجداداً وصار احفادهم زبائن له، مر من أمامه ثُوّارٌ وساسةٌ وقادةٌ رحلوا كلهم، ومزال هو هنا، يقف هنا، مرتدياً ذات المئزر، يطبخ في ذات القِدر يبيع الفاصوليا لطلبة المدارس، الموظفين، رواد الدوائر الحكومية، للذاهبين لحضور مبارةٍ ما من الفريقين، وللسُكارى في الليل.
هل جُعت؟
Comments