top of page

جاء الخريف

ahmedobenomran

لم يأت الخريفُ بعد٬

ربما قرر عدم القدوم أصلاً ولم يُبلغ أحداً بذلك٬ لا العمال في مصانعهم٬ ولا الطلبة في مدارسهم٬ولا والمزارعون في حقولهم٬ ولا هذه العجوز التي تجلس عند نافذة بيتها المُطلة على الزقاق الجانبي٬ لم تغادر النافذة منذ عام٬ منذ أن سافر ابنها وأخبرها بأنه سيعود بعد عام٬ منذ أن جلست في ذلك المساء تراقبه يمشي تاركاً البيت والزقاق وهي خلفه ويصعد في سيارة الأجرة الصفراء٬ منذ ذلك المساء وهي لا تغادر مقعدها هذا الا لقضاءٍ حاجة مُلحة كالنومِ مثلاً٬ عندما خرج ابنها٬ كانت النسمات الباردة المُبشرة بقرب رحيل الخريف وقدوم الشتاء قد وصلت للمدينة٬ تُحرك خصلات شعرها الأبيض التي غفل الوشاح عن تغطيتها٬ وتضرب وجهه فتزيد من بياضه٬ ويقف طائر الحسون على شجرةٍ قريب مُغنيا مُبتهجاً دون أن يعرف أحدٌ سبب ابتهاجه٬ منذ ذلك المساء٬ تجلس هنا في كل يومٍ يجاورها كوب الشاي وقطط الشارع٬ يعرف الجيران مكان جلوسها حتى اعتادوه٬ أما القادمون الجُدد للشارع٬ فقد ظلت تُفزعهم رؤيتها دوماً.


اول الخائفين كان شاباً جاء من خارج المدينة مطلع الشتاء٬ انتقل هنا للدراسة ولم يجد مكاناً يأويه اول الأمر سوى البيت المقابل لنافذتها٬ لم يعرف الشاب بأنها كانت تراه في خروجه ودخوله٬ يخرج صباحاً ذاهباً للجامعة على عجل٬ يعود ليلاً يرميه التعب٬ تتعلق أنظاره على باب بيته بينما يعد الخطوات فرحاً حتى يصل له٬ يفتح الباب ويدخل دون أن ينظر لما حوله٬ وهي… هي ترى عودته كل مساء من خلف النافذة٬ وحيداً مُتعباً٬ لا صديق ولا رفيق له يؤنسه في غربته هذه٬ حتى وفي أحد الأيام٬ كانت الأمطار يومها تنزل من السماء بتدافع٬ وكان هو٬ يجري عائداً هارباً من الأمطار مُحاولاً أن يصل للمنزل قبل أن يزداد ابتلالاً٬ استعجاله في محاولة فتح الباب جعله يُوقع المفتاح أرضاً٬ وانحنائه ليلتقطه جعل قطاً خلفه يتحرك خوفاً واستعداداً للهرب٬ حركة القط جعلته هو يلتفت في خوف


"اسف"

قال للقط بعد أن رأه قبل أن يهم عائداً ليفتح الباب٬ لكنه لمح شيئاً أخر جعله ينظر مرةً أخرى قبل أن يهمس خوفاً


"بسم الله"


تلك المرة الأولى التي يراها فيها٬ او يرى فيها شبحهها على الأقل٬ فضوء الشارع الخافت لم يُمكنه من أن يراها بشكلٍ كامل٬ حياها بخوف٬ لم ترد التحية٬ ولم تتحرك٬ لم يكن هو من تنتظر تحيته٬ فلما ترد على تحية لا تريدها٬ هذا ما دار بخاطرها على الأقل٬ أما هو٬ فانسحب داخلاً بعد أن فتح الباب.


منذ تلك الليلة تحديداً صار ينظر نحو نافذتها في كل مرة يخرج أو يدخل٬ يُحييها حين يراها بابتسامةٍ لا ترد عليها هي ولا ترد على التحية٬ ولم يُفلح تكراره واصراره في جعلها تقبل تحيته ولو لمرة٬ بمرور الأيام صار له أصحابٌ يأتون لبيته٬ يدرسون معاً٬ يسهرون معاً٬ ويضحكون معاً٬ وهي تجلس خلف النافذة ترى كل ذلك ولا تتحرك٬ حتى رأته ذات يومٍ يحمل حقيبته خارجاً تاركاً الدار خلفه٬ يتجه نحو نهاية الزقاق٬ يركب سيارة الأجرة الصفراء ويرحل٬ ولم يعد بعد ذلك اليوم.


مر الشتاء سريعاً٬ لم تلحظه٬ ولم تعرف سبب توقف الأمطار واعتدال الطقس الا عندما سمعت أحد المارة يمدح ربيع هذا العام بعد أن عاد من رحلةٍ قضاها رفقة العائلة في الجبل٬ لم تذهب للجبل هذا العام٬ لم تُفلح دعوات الجيران لها بأن تذهب معهم في جعلها تترك نافذتها لترى الربيع٬ حتى القطط صارت ترمي لها الطعام من نافذتها تلك.


في يومٍ من أيام الربيع٬ جاء مستأجرٌ جديد للبيت المقابل لبيتها٬ لم يكن كالشاب الذي جاء قبله٬ لم يأت بحقيبةٍ كبيرة٬ حقيبةٌ صغيرة عرفت منها أنه هنا لبضعة أيامٍ فقط٬ كان خروجه وقدومه غريباً بالنسبة لها٬ يخرج منتصف النهار٬ يغيب لساعة٬ ثم يعود٬ يخرج عند الغروب لساعتين٬ ثم يعود٬ لا تسمع له صوتاً في الداخل٬ لا ضوضاء٬ ولا حتى حديثاً٬ وفي الليلة الثالثة وبينما كانت تجلس في ذات النافذة وبينما كان الشارع صامتاً وخالياً من كل شيء وصوت٬ سوى صوت مواء القطط المولودة حديثاً٬ لمحت شبحهه يتهادى من مدخل الزقاق٬ يمشي في ترنح يرتمي ذات اليمين واليسار لا يمنعه من السقوط سوى جدران البيوت٬ يمشي رغم سكره على رؤس اصابعه خشية أن يدوس قطٍ ما٬ يسترق جرعات من قارورةٍ ما اخفاها داخل كيس٬ قبل أن يبسط ذراعه مرة أخرى حتى يُمسك بالجدار ويتجنب الوقوع٬ في أخر ترنحٍ له قبل أن يصل لبابه٬ رماه سُكره عند نافذاتها٬ نظر نحوها٬ رأى تعابير وجهها الخائف٬ عينيها الزرقاوين تحت ضوء القمر٬ وتجاعيد حفرها الزمان على وجهها٬ قبل أن يترنح نحو بابه٬ نظر نحوها مرةً أخرى قبل أن يقول


"سكران متكي عالساس"


ويصمت ليشرع في عملية فتح الباب التي أخذت اطول من المتوقع بفعل الخمر التي احتلت دماغه وعطلت عمله٬ ثم انسحب خلف الباب وأعاد الشارع لظلامه السابق بعد أن أغلق الباب على الضوء الذي خرج للزقاق قليلاً.


رحل في صباح اليوم التالي٬ وظلت هي تفكر في وجهه قليلاً٬ يُشبه ابنها لدرجةٍ ما٬ أو ربما خلقت هي الشبه بعد أن جال في خاطرها أن يكون ابنها هو الأخر يعود لمنزله كصاحبنا هذا٬ يرميه السكر يمين يسار٬ عزت نفسها بأنه قد يكون مثل هذا السكير٬ زاهداً في النساء٬ عرفت زهده من الثلاث كلمات الوحيدة التي قالها لها٬ سمعت قصة تلك الجملة في وقتٍ سبق عندما كان أحد المارة يروي لصاحبه عن سكرانٍ مرت من امامه نسوة أصابهن الخوف منه فقال تلك الجملة.


لم يكن الربيع في ذلك الزقاق طويل العمر٬ هو يأتِ على خجل ويُغادر على عجل٬ لكنها لم تلحظ ذلك٬ بل ظلت تستغرب ارتفاع درجة الحرارة وسبب اختفاء القطط الصغار من الزقاق٬ ولم تكن لتلحظ قدوم الصيف الا بسبب خروج جيرانه ذات يومٍ بمبلابس البحر٬ دعاها الجار للذهاب معهم٬ لكنها كعادتها رفضت٬ فضلت الجلوس في هذه النافذة تراقب الزقاق كعادتها٬ قبل الغروب بقليل٬ وقفت سيارة أجرة صفراء عند مدخل الزقاق٬ نزل منها زوجان٬ يكشف شعرهم الأصفر وجلدهم الأبيض عن أنهم من خارج المدينة جاؤوا هنا طلباً للبحر ربما


"هالبحر اللي يجيبلنا في هالحوت"


تقول في سرها بينما تراقبهم بنظرات ازدراء وهم يدخلون من الباب المقابل.


تتكر نظرات الازدراء في كل مرة تراهم خارجين بثياب البحر وعائدين منه بملابس ومناشف مُبللة٬ تزدريهم ايضاً عند رؤيتهم خارجين لسهرةٍ ما٬ اربعة أيامٍ كاملة٬ تراقبهم من النافذة في كل مرة٬ تزدريهم في كل مرة٬ وتبصق خلفهم في بضعة مرات٬ ولم يلمحها الزوج ولا الزوجة في هذه الأيام الأربعة٬ حتى الليلة الرابعة٬ انقطعت النسمات عن المرور بذلك الزقاق٬ سكنت الرياح في تلك الليلة٬ ولم تزاحم الغيوم القمر في السماء فجاء شعاعها أقوى ضارباً نافذتها مُرسلاً قليلا من الضوء عليها هي٬ قطع السكون صوت ضحكات نسوية تأتي من أول الزقاق٬ تنظر نحو مصدر الصوت فترى الزوجان يمرحان معاً٬ تدفع الزوجة يدي زوجها التي تحاول الامساك بها وتقفز للأمام هرباً حتى اذا وصلا للباب يمُسك الزوج بها٬ ولم يستطع أن يصبر لثواني حتى يدخلا فشرع يحاول أن يسرق قبلة تحت ضوء القمر٬ أما الزوجة التي ظلت تضحك وتدفعه بلطف فقد لمحت ذلك الوجه الابيض تحت ضوء القمر٬ فتوقفت عن الضحك٬ تحول دفعها من اللطيف للجدي٬ وحدثت زوجها بلغةٍ أجنبية لا تفهمها العجوز٬ فنظر الزوج نحوه وقد اعتلت وجههما ابتسامة حرج٬ وبادرا بالإعتذار بذات اللغة قبل ان ينسحبا داخلين باستحياء٬ لم تكن لتشغل بالها بهما لولا خشيتها أن يكون ابنها يقوم بفعلتهما هذه حيث هو٬ خافت أن تكون اجنبية قد ضحكت عليه ووقع بحبها فتكون قد سلبتها منها٬ ودعت الله أن لا تحبه واحدة حتى يعود٬ وزادت في دعائها حتى نامت.


رحل الزوجان ورحل الصيف من خلفهما ولكن الخريف لم يأت بعد٬ حتى الحسون لم يعد فوق الشجرة٬ وظلت تدعو الله ان



الخريف بسرعة٬ فهو الوقت الموعود٬ وظلت تُفكر في فرحها بعودة ابنها٬ وبأنها ستدعوه واصحابه للسهر في بيتها وستطبخ لهم٬ وبأنها ستذهب معه للجبل لتستمع بالربيع٬ وستدعو الجيران للذهاب معهم٬ وانها ستصحبه للبحر كل يوم٬ هي تحب البحر والجبل والربيع٬ وستعطيه الطعام كل يوم ليضعه لقطط الشارع التي تحبها٬ وستجهزه معه صناديق صغيرة تقيهم برد الشتاء كما فعلت قبل أن يسافر ابنها٬ وستزوجه٬ وستمنعه من الخروج للسكر٬ وتُسكن زوجته بيتها حتى لا يُقبلها في الشارع٬ ظلت تعد الأيام منتظرةٍ قدومه٬ حتى ذات يوم٬ وبينما كانت القطط نائمة في الشارع٬ وبينما وقف طائر الحسون فوق الشجرة٬ وقفت سيارة أجرة صفراء في بداية الزقاق٬ نزل منها الابن٬ شرع ماشياً نحو بيتهم٬ لكنها لم تكن في النافذة حينها٬ لم تجلس هناك يومها٬ بل لم تخرج من غرفتها٬ ولم تستيقظ من نومها٬ ولن تستيقظ منه أبداً٬ دخل الابن البيت فالغرفة ليقف أمام جثة أمه الميتة على فراشها٬ وليستمر طائر الحسون في الوقوف فوق الشجرة يشدو في فرحٍ وابتهاج… دون أن يعرف احد سر فرحه.

47 views0 comments

Recent Posts

See All

31

Comments


bottom of page