تمتد المروج الخضراء منسجمةً مع ارتفاع الأرض وانخفاضها، تقفز لتحلق بالهضباب، ثم تزحف لتعانق السهل والوادي، لا يعكر صفو مزاجها شيء سوى طريق الاسفلت البشع القاسم بينها الملتوي في أحاضنها، تزحف على الطريق سيارة التيوتا طالبان بالرغم من تهالكها وكثرة أزيز الحديد الصادر منها مع كل حفرةٍ تقابلها، تفوح من داخلها رائحة روث الحيوانات، السجائر، ورائحةٌ عفنة لا يُعرف مصدرها، يمضي سائقها مُسرعاً لا يبالي بشيء، لا يُهدأ لمُنعطف، لا يتجنب الحفر ولا يبدو أنه يحاول ذلك أساساً، تزداد قبضة يده احكاماً على المقود فقط في كل مرةٍ ترتج السيارة فوق حُفرة، تكاد عيونه لا ترمش لفرط تحديقه في الطريق، يلتفت ذات اليمين واليسار ماسحاً الأرجاء بعينيه باحثاً عن مجهولٍ في الأُفق، لكنه لا يجده، فيستمر في السير غير مبالي، تسمتر تونس مفتاح تغني بصوتٍ رديء يخرج من مذياع السيارة البائد، يكاد صوتها أن يكون مبحوحاً بفعل قِدم المُسجل بينما تُصَّرُ مُخاطبةً عزيزها بأنها نسته وترجو أن يخطاها، بينما يهز سائق السيارة رأسه مُنسجماً، يسحب من سيجارته نفساً يكاد أن يشفط السيجارة لداخل جوفه من شدته قبل أن ينفث دخانها من خلف أسنانه الصفراء ثم يضع كوب الشاي بين شفاهه المائلة للسواد، الشاي الذي ارتشفه هو الأخر يميل للسواد رغم أنه طلبه أحمراً، ورغم أنه يطلبه كل يومٍ طيلة خمس أشهرٍ بدون سكر حتى يتجنب مضاعفات مرض السكري، الا أنه يجده حلواً في كل مرة دون أن يتأثر بذلك حتى شك في مصداقية طبيبه واختبار دمه بل ويشكك في مصداقية دمه أيضاً.
يقف على نقطة التفتيش، يلقي التحية على كل من فيها، ثم يمضي في طريقه، مر على ذات النقطة كل يومٍ مرتين حتى حفظه جنودها وحفظوه، توقفوا عن تفتيش سيارته منذ زمن رغم استغرابهم من رائحة روث الحيوانات رغم انهم لم يروا حيواناً في مقصورة السيارة الخلفية ذات يوم، لكن الرائحة ماتزال هناك، توقفوا عن طلب أوراق السيارة بعد حفظوا اجاباته
"باسمك السيارة؟"
"لا باسم خويا؟"
"وينه خوك؟"
"قاعد يرعى"
فينطلق في طريقه مستأنفاً
لهذا توقفوا عن سؤاله.
ينعرج يميناً في منتصف الطريق، لا يُهدأ رغم أن الطريق غير معبد، يهتز كل شيء في جسمه من قدمه حتى رأسه، يكاد رأسه أن يتربطم بسقف السيارة بفعل الاهتزاز، ينقطع صوت تونس مفتاح فيقوم بضرب المسجل مرتين ليعود صوتها خارجاً من المذياع، يهتز كوب الشاي هو الأخر فينسكب منه حول الكوب ويصل لسرواله تاركاً أثراً هناك، لم يكن الأثر الأول فقد سبقته بُقعٌ أخرى أقدم منها على ذات السروال، لكنه لا يبالي بها… كما لم يبال بالبقع السابقة، يجري وسط طريقٍ تراب يشق الحشائش الخضراء تاركاً خلفها عاصفةً من التراب و مجموعاتٍ من الحيوانات والطيور تلعنه بعد أن أزعجها، الأتربة التي تدخل من نوافذ السيارة المفتوحة يبدو أنها لا تزعجه، يتركها تدخل وتترسب على كل شيءٍ في السيارة بما في ذلك ياقة القميص الذي كان أبيضاً في يومٍ من الأيام، كان الربيع قد اجتاح كل شيء فكسى الأرض خضاراً تزينت بنقاط صفراء بفعل الزهور المنشترة بينما طرحت الشمس أشعتها وتجلس في منتصف السماء.
يقف فجأة في منتصف الطريق قبل أن يقفز من سيارته دون أن يفتح الباب ويجري في منتصف المراعي قبل أن يخفف من سرعته ويبدأ يمشي متمهلاً، يراقب شيئاً بتركيز قبل أن ينكس رأسه قائلاً:
"لا مش وسمنا"
ويعود أدراجه خائباً بينما ينفث دخان سيجارته ويلعن البقرة الواقفة في ذهول، لعن البقرة ومن وضعها هنا ولعن مرعاها بل والدها، لكنه لم يكن يلعنها هي فعلا.
يقضي ما تبقى من وقت النهار في أرضٍ ليست ملكاً لأحد يدور في دوائر طويلة بين السهل والوادي، في سيارته تارةً ومشياً على الأقدام متكئاً على غصن شجرة وجده مرمياً تارةً أخرى، يدور وكأنه يبحث عن كنزٍ ما في هذه الأرض الواسعة، كنزٌ لا خريطة تدله عليه، يدور وحده لا أحد معه… سوى أحزانه وشوقٌ يطمح أن ينتهي، يستمر في بحثه هذا دون توقفٍ الا للحظاتٍ يروي فيها عطشهو حتى اذا ما بدأت الطيور في العودة لأعشاشها، يجلس على صخرةٍ يُكمل عليها ما تبقى من طاسة الشاهي، يتأمل فيها الأرض ويطلق فيها بصره إلى حيث يستطيع، يُعجب بمزرعةٍ يراها في الأفق، يتبسم لرؤيتها ويدعو لصاحبها بأن يبارك له فيها، يموت الإنسان مرتان، مرة قبل أن يدفن بقليل، ومرة عندما يتمنى ما لا يستطيعه ويحزن كون غيره يملكه، تلك الغيرة هي السم الذي يتجرعه الانسان طواعية حتى يموت ببطيء، لكنه - صاحبنا- لا يعرف ذلك السم، يدعو فقط لصحابه وينهض عائداً نحو سيارته، يشغل مسجل سيارته وينطلق نحو الطريق العام.
يعرف الضباط الواقفون في البوابة جيداً موعد عودته، ويميزون جيداً اضواء سيارته المرتعشة، فلا يقفون في طريقه أثناء مروره، يلقون التحية عليه فقط حين يُهدأ على المطب، يعزمون عليه بطاسة شاهي يعرفون أيضاً بأنه لن يقبلها وسيمر على عجل، لكنه في ذلك اليوم توقف، توقف تماماً، ينظر نحو شابٍ يقف جانباً ينتظر شخصاً يركب معه ليوصله حيث يريد في طريقه أو يقربه لها على الأقل، يتفحص جيداً سروال الشاب، يُمعن النظر في الخاتم الذي في يده اليُسرى، ثم يمسحه مسحاً شاملا من رأسه حتى قدميه قبل أن يسأله:
"وين طريقك؟"
"البلاد"
يجيب الشاب باستغراب، فهو يقف هنا في كل يومٍ، ويعرف السيارة وصاحبها الذي لم يسأله في يوم.
يُشير اليه بأن يركب فيركب متردداً قبل أن تنطلق السيارة مرة أخرى، تمتد الطريق في وسط الجبال، تكثر فيه المنعطافات، يتكلم الشاب مادحاً الربيع وجمال الغروب، لكن السائق لا يرى ذلك، لا يرى سوى الموت في كل منعطف، لا يسمع شيئاً من حديث رفيقه، لا يسمع سوى اصوات الغربان، ينظر بين الفينة والأخرى نحو ذات الخاتم وينطلق في سره ساباً الغربان و متسائلاً متى تنتهي الطريق، لم يتوقف سبابه الا عندما ارتفع صوت احتكاك الاطارات بالاسفلت قبل ان تقف السيارة أمام بقرة كان بينها وبين الموت مسافة اصبع يدٍ واحدة، تجاوز البقرة، انطلق غاضباً يرمي الشتائم جهاراً
سب البقرة
والطريق
ومن ترك البقرة دون أن يربطها
لكنهم لم يكن يسب البقرة فعلاً.
حمد الشاب ربه على السلامة بعد أن دخول المدينة من هول ما رأه، لم يرد السائق عليه، عيناه كانتا تركزان على السيارات المارة، يلمح في احداها فتاةً ترمي قبلةً في الهواء، تسرقها من تحت الأنظار وترسلها لفتى عاشق كان ينتظرها بشوق فيبستم قبل أن يمضي في طريقه حتى لا يشك فيه أحد، ويتبسم السائق والسيجارة في فمه، لم يكن ذلك المشهد الغريب الوحيد هنا، كل سكان المدينة استغربوا من الشاب الراكب بجانبه، يقسمون بأنهم لم يروا أحداً يركب معه في السيارة منذ ذلك اليوم، يقسمون أيضاً بأن من يركب معه كان يرتدي ذات السترة، وذات السروال، بل وأنهم عرفوا خاتمه حتى أنهم ظنوا بأن صاحب السيارة قد وجده بعد كل هذا البحث، لكنه لم يكن هو، لم يكن أخاه الذي خرج في يوم السيل يبحث عن من يشتري بقرته بعد أن أصر صاحبنا على بيعها لينال كلٌ منهما نصيبه في ورثة أبيه، خرج وابتلعته المياه والوديان، لم يجدوا الا سيارته هذه، ومنذ ذلك الحين، يخرج صاحبنا في كل صباح يبحث عن شقيقه حتى الغروب، لكنه لم يخرج مرةً أخرى بعد هذا، باع السيارة واعتزل الناس في بيته حتى مات ونال مالم ينله شقيقه، دُفن في أرضٍ معروفة و دون أن يسرق أحدهم سرواله ... أو خاتمه
Comments