تخونني الذاكرة في تذكر التاريخ بالتحديد فأقف محتاراً بين صيف 2003 أو 2004، أذكر فقط بأنه فصل الصيف ولماذا سيذكر طفلٌ لم يبلغ العشر سنوات من عمره بعد التاريخ بالتحديد؟ أغلب الظن أنه كان صيف 2003 فقد كان غزو العراق ذكرى ليست بالبعيدة، والعام هو زمنٌ طويل في عمر الفتى، ، تسير بينا سيارة والدي الفولكس فاجن غولف البيضاء المُوشمة بشعار شركة الخليج العربي للنفط، تسير بينا ليلاً في شوارع المدينة، سمعنا من أحدهم عن معرضٍ للكتاب يُقام في مبنى الدعوة الإسلامية يوم كان مبنى تجاري يخدم سكان المدينة قبل أن يجتاحه الدمار في الحرب، كطفلٍ صغير، كانت زيارة هذه المباني تثير حماسي وفرحتي، أمشي بجانب والدي أنظر نحو كل شيء بانبهار، الارضية اللامعة، الأضواء التي كانت بعضها عاطلاً، ورائحة الدخان، صادف وجود معرض الكتاب وجود معرض يشارك فيه عبد القادر بدر والد سالم الذي كان زميلاً لي في الكشافة حينها وصار رفيق غربة وقهوة لاحقاً، مدفوعاً بفضول الاطفال، دفعت والدي لدخول المعرض، مصاباً بحيرة الاطفال، خرجت منه دون أن أعرف أو أفهم أي من اللوحات المعروضة.
قلت لوالدي ذات يومٍ مُنكافاً إياه مُشيراً للكتاب الأخضر بعد أن وجدناه معروضاً في مكتبة الفضيل:
"ناخذ هذا"
رد والدي الذي كان كارهاً لكل ما هو أخضر حينها كان إن كنت ستقرأه أشتريه لك، رد والدي الذي كان نابعاً من تشجيعي على القراءة وعدم منعي من قرأة أي شيء أريد، ذات المنبع الذي جعله يأخذني لكل معرض كتابٍ نسمع عنه، حتى وان لم يكن مخصصاً للأطفال، في معرض الدعوة الاسلامية ذاك، تسلسلت الخيبة بداخلي، لم أجد فيه أي من مجلات ماجد، لا أجاثا كريستي ولا شارلوك هولمز، ما وجدته فقط كان كُتباً لأسماءٍ اسمع بها للمرة الأولى في حياتي، خرجت من المعرض بكتابين فقط، يرافقناني ليومنا هذا لمكانتهما المعنوية عندي، فهما وقبل اي شيء، قبل حتى أن أقرء أي منهما، أول كتابين أشتريهما بحر مالي.
أحدهما كان ديوان شعر، وكان أحد مسامير نعش إهتمامي بالشعر، أما الأخر فقد صار رفيقي الذي أُصر على زيارته بين الفينة والأخرى، الكتاب الذي انتقل معي من شقتنا في الكيش، إلى شاليهات النيروز بعد أن باع والدي الشقة حتى يُكمل بثمنها بناء بيتنا الحالي، ثم انتقل معي إلى بوهديمة وقبرص من بعدها، رفيقي الذي وإن ارتدى الغبار ثوباً إذا ما هجرته لفترة، لكنني أعود له، وفي كل مرة أعود له أجد فيه ما عجزت عن فهمه في المرات السابقة، أو معانٍ جديدة تغيرت بتغير الزمان، كان موسم الحكايات لخلفية الفاخري باباً لي لعالمٍ جديد بدأت باسكتشافه كطفلٍ لا يفهم من ما يقرأه شيئاً، لن أقول بأنه هو ما جعلني أختار الكتابة حُلماً، فقد بدأت محاولاتي قبل ذلك، قبل أن أفهم معنى أن تكون كاتباً أساساً، لكنني أذكر جيداً قولي لنفسي بأنني أريد أن أفعل شيئاً كهذا، لا أعرف ما اسمه، لا اعرف ما وصفه، هو فقط شيء، وأريد أن يكون مثل هذا.
أمسك خليفة الفاخري (الجنقي) بيدي وسحبني منها إلى عالمٍ جديد، أقعدني بجانبه في مقاهي لندن قبل أن ننطلق إلى شوارع بنغازي التي لم أر، يطوف بي بين أزقة البلاد داخلين بيوتها دون استئذان، يعرفني بأشخاصٍ ماتوا قبل سنواتٍ من ولادتي، يحدثني عن قصصٍ شتى قبل أن يعود بي إلى إحدى غُرفي المتعددة، تمر السنوات فأجد نفسي في مقهىً على ناصية شارعٍ من شوارع برشلونة، تسألني الفتاة الكرواتية عن الأدب في ليبيا، تسألني عن رأي في خليفة، أفرح لمعرفتها به فتقول بأنها سمعت عنه كما سمعت عن الصادق النيهوم، تسألني عن الليبين كجزءٍ من حوار تجريه معي لتنشره في صحيفة محلية فأجيب بما قاله الجنقي
" الليبيون بخير يشربون الشاهي والقهوة لا ينقصهم إلا الحب "
تُعجب هي بما قاله، أشرد أنا فيه في طريق عودتنا للفندق، فأقول لنفسي مخاطباً خليفة، لو عشت لترى الليبيون يشربون القهوة بأشكالٍ وأصناف من الاسبريسو والمكياطة والنسكافيه، يحتسون ا
لشاي من الحشيشة إلى الكيس بالنعناع والبابونج، جنقي، الليبيون كالطليان، يشربون الكابتشينو، يأكلون الكرواسون وينادونه بريوش، يُحلون بالكريب والبان كيك، بعد سنواتٍ من وفاتك، وبعد عقدٍ من ثورة خرجوا فيها يطالبون بحريةٍ كتبت عنها كثيراً، بات الليبيون يُفطرون كالطليان، يتغدون كالسعوديين، يتعشون كالأمريكان، لكنهم يعجزون أن يعيشوا كبشر.
وجدتني في تلك الليلة أتصفح موسم الحكايات مجدداً عبر هاتفي، شيءٌ من الندم لجهلي بالأدب المحلي وبزملاء الجنقي من كُتاب، قررت عند عودتي لبنغازي أن أعطي فرصةً لأخرين غيره فوجدتني أقف أمام قهوة سي عقيلة للأستاذ محمد عقيلة العمامي، الذي فعل بي ما فعله صاحبه، أمسك بيدي وسحبني إلى أزقةٍ أخرى وحكاياتٍ أخرى، لكنه رماني في النهاية أمام صاحبه، وجدته يُجلسني أمام خليفة ووجه أخر له، وكأنه يقول لي بأن كل الطرق تؤدي إلى هنا، كل شوارع بنغازي وحواراتها تصل إلى هذه الوجهة، فرحت قليلاً عندما وجدت أن خليفة هو من شجع الأستاذ على الكتابة، ولا أصف الجنقي بالأستاذ لأنه -وإن مات قبل أن اتعلم أن فك الخط اصلاً- إلا انني وجدت بين كلماته صديقاً لم ألتقيه، رفيقاً في غربة مختلفة.
لا أدري من الذي جعلني أفتح حاسوبي اليوم بعد قرابة العشرون عاماً من لقائي الأول بخليفة الفاخري وأن أكتب ما كتبته، تغيرت الوجوه يا جنقي، صارت الكتابة أسهل وبدل دار النشر صار عندنا المئات، ومزال الكاتب الليبي يقف عاجزاً، بل حتى انه ابتعد عن الشر وغنى له، فصار يكتب عن ماركس و فلسفة سارتر ونيتشه، يحكي عن مناصرة قضايا الأقليات في مانهاتن و ستوكهولم، يناصر الكفاح في طهران و يؤيد ثورة العمال في سيريلنكا، لكنه لا يعرف فلسفة ميلاد ونوري، يصاب بالخرس عند الحديث مشاكل الأقليات في مرادة وبراك الشاطيء، صار الكاتب كالخضار، يجلس أمام محله ينادي على بضاعته يبيعها بالكيلو منتظراً الفرج، وما تزال بنغازي مالحةً تحن على غريبها وتقسو على قريبها حتى تكاد تجحده، صارت أماً يتيمةً مات ابنائها في الحرب فأصابها الجنون حُزناً، سار الموت في شوارعها حتى حفظنا وجهه، ولازمنا البؤس حتى صار مواطناً مثلنا، ، أما أنا فمازلت ذلك الطفل الذي يخشى أن يبوح بما داخله، أستيقظ في غربة وأنام في غربة، وبين الغربة والغربة أقول لنفسي:
"قد يكون المنفى وطناً في كثير من الأحيان، وقد يكون العكس"
Comments