طرقات متتالية على الباب تكاد تقتلع باب المنزل رقم 3 بشارع اخريبيش من مكانه، يهرع سكانه فزعين خائفين من الشر المستعجل خلف الباب، يقف الجنود أمام البيت بينما يُخرجون سكانه، أو بعضاً منهم، يصعد مصطفى و محمد وعائلاتهم على متن العربة العسكرية ذات الأعلام الايطالية بينما يقف حمد يفاوض عسكرياً لعله يثني الجند عن قرارهم أو يعرف سبباً لهذا القرار، أو على أقل تقدير، أن يعرف مصير اشقائه و أين يقادون، لكن العسكري ظل يجيب بكلماتٍ متقطعة تخرج من فمه الافرنجي بالتقسيط
" مخربين"
"العقيلة"
"مخربين"
لا يدري حمد عن المخربين الذي يتحدث عنهم العسكري، لكنه يدري عن صحراء العقيلة، هناك حيث نُصب معتقلٌ يضم عائلات المجاهدين والمتعاونين معهم، وهؤلاء هم من قصد الايطالي بالمخربين، تحت قوس باب المنزل رقم 3 وقف عقيلة الطفل، تستجديه أمه فاطمة للدخول، لكن الطفل يرفض، وقف يشاهد خاله الأصغر منتصباً في وسط الشارع تحت ضوء الفجر يربت على كتفه الجيران بينما يصرخ بعلو صوته مُوكلاً ربه، يراقب الطفل بعينيه الصغيرتان العربة تبتعد تاركةً الشارع، في ليلةٍ من ليالي العام 1928 ميلادية.
صار البيت خالياً، البيت الذي كان مليئاً بالدفء صار فيه عقيلة، أمه فاطمة، خاله حمد، وغُرفٌ خالية تركها سكانها أو أُجبروا على تركها، فعوض غائبٌ منذ سنوات ولم يصل منه خبرٌ ولا مرسال بعد أن خرج للجهاد، رجب وعلي خرجا معاً أيضاً للجهاد، لكن مراسيلهما وصلت، سمع عقيلة خاله حمد يحكي لأمه ذات يومٍ ما وصله من أخبار اخوانه، بعد اعدام سي عمر ضعفت حركة الجهاد حتى ذبلت، فركب علي قافلةً نحو مصر، اما رجب، فقد وصلت أخباره عبر الحاج عبد الله، كُلف رجب بإيصال أمانةٍ تخص سي عمر لمصر قبل أن يهم راجعاً نحو بنغازي، التقى بالحاج عبد الله في منتصف الطريق فسأل رجب عن وجهته وأجاب رجب بأنه عائدً لأهله، يُخبر حمد أخته بأن الحاج عبد الله نصحه بالعدول عن ذلك لخطورة الطريق، وأنه دبر له عملاً ومسكناً في الحنية حتى تهدأ الأمور، وصلت مراسيل رجب لاحقاً تُخبرهم بأنه بخيرٍ وسلام، وأنه تزوج هناك وصار له ابنٌ لم يسمه على اسم جده، بل اختار له من الأسماء عبد الله، وابنةٌ اسماها بدرية، أما مصطفى ومحمد فهم في المعتقل، تصل أخبارهم متقطعة، وليست بالأخبار، هي تطمينات في البداية، نصائح لحمد أصغر الابناء في ادارة امور العائلة ورزقها، توصيةٌ على أختهم المُطلقة وابنها، وسلامٌ في الختام، سلامٌ لمن في المدينة ولمن في الحنية ومصر.
تمر الأيام على الطفل عقيلة يرى فيها خاله يعيل أخته وابنها، يتقصى أخبار اشقائه المنفي منهم والمعتقل، يتكيء على عكازه في كل خطوةٍ يخطوها، أما امه فاطمة، فلم يختلف حالها كثيراً، تدبر أمور البيت صباحاً، تجلس شاردةً في غرفتها ليلاً، البيت الذي يجمع الناس صار خاوياً موحشاً لطفلٍ صغير، طفلٌ أحب باحة المنزل كونها ملعباً له ولأقرانه، اختفى الأقران وبقيت الباحة خالية كيئبةً عليه، على طفلٍ في العاشرة من عمره.
يتغير ذلك عندما يُطرق باب المنزل ذات الليل، يتبع عقيلة خاله بينما يتجه فاتحاً الباب كما فعل فجر اعتقال أخواله، لكنه هذه المرة يقف في منتصف الطريق، يخاف الطفل الصغير أن يرى خاله الوحيد الباقي يُجر هو أيضاً كما حدث لأشقائه قبل عامين، يخشى أن يُجبر وهو الفتى على أن يحمل ما حمله خاله من مهام، أن يجد نفسهُ مسؤلاً عن رزق أخواله، أن يُعيل أمه، أن يستقبل المراسيل من العقيلة ويُرسل مافيها من سلام إلى الحنية، يُنصت الطفل جيداً للأصوات القادمة
"السلام عليكم"
صوتٌ فرحٌ يجيب
"وعليكم السلام ورحمة الله، رجب!!"
يسمع الطفل أصوات عناق
"حمد لله عالسلامة، تفضلوا تفضلوا"
يسمع الطفل صوت أقدامٍ قادمةٌ نحوه
ينادي خاله حمد فاطمة قائلاً
"تعالي يا فاطمة"
يدخل القادمون، يقف رجلٌ يلف عمامةً على رأسه، طفلُ وطفلة، امرأة
"تعال سلم على خالك رجب"
يناديه خاله حمد ليلقي السلام على خاله، وعلى بدرية الطفلة الصغيرة التي تدخل البيت للمرة الأولى كما أمها مشطوها، البدوية التي كان زواج خاله منها بمثابة وسيلةٍ للحصول على اقامة وهو الغريب العازب وسط مجتمعٍ بدويٍ مغلق.
تعالت زغاريت فاطمة في تلك الليلة حتى ارتفعت فوق منارة اخريبيش، وأمضت فاطمة ليلتها تجهز غرفة شقيقها وقد أبعد الفرح النوم عن عينيها، في تلك الليلة، عاد شيءٌ من الدفء للمنزل رقم 3 بشارع اخريبيش.
جلس عقيلة وسط خواله لاحقاً يسمع قصص خاله رجب عن التحاقهم بقافلة المجابرة خارج سور المدينة ووصولهم لبنينا حيث المجاهدين، عن ذبول حركة الجهاد و عن ذهاب علي لمصر، عن الهودج الذي أوصله هو لمصر قبل أن يعود لبنغازي، عن لقائه بالحاج عبد الله قرب الحنية والذي أخبره متسائلاً:
"وين ماشي يا رجب، خوتك في المعتقل وأنت وعلي عليكم اعدام"
عرف عقيلة أن خاله حمد أخفى عن شقيقته فاطمة بأنح حُكماً بالاعدام قد صدر في حق شقيقيها خوفاً عليها، فما هي فيه من حزنٍ وقلق يكفيها، يحكي الخال رجب عن تدبير الحاج عبد الله وظيفة كاتب بالمتصرفية هناك في الحنية، وأن الناس صاروا ينادونه رجب الكاتب، وأن الطليان حاولوا القبض عليه عنك قبل بضعة أسابيع لكنه أفلت منهم بأن أخبرهم أنه موظفٌ لديهم وأنهم صدقوه وأخلوا سراحه فقرر العودة.
يُرسل حمد في الصباح التالي مرسالين تعب حتى وجدهما، الأول لشقيقه علي في مصر و الأخر لمصطفى في العقيلة يطمئن فيه الكل بعودة رجب وداعياً بأن يعيدهم الله سالمين كما أعاده، يزيد دعاء حمد في كل صلاة، يزداد معه قلقه، جاءت الأخبار بأن مُعتقل العقيلة قد فُظ، لكن الأيام تمر ولم يصل أيٌ منهم، ولم تصل منهم المراسيل، يبكي حمد في ليلةٍ ترتفع فيها يداه للسماء مُناجياً، يدعو بأن يكون شقيقها بخيرٍ على الأقل حتى وان لم يعودوا، يستعيذ من الشيطان بعدما وسوس له بأنهم ماتوا وابتلعتهم رمال الصحراء، يزيد من دعائه قبل أن ينهض مُؤَمِّناً.
يطرق طارقٌ الباب مرةً أخرى، هذه المرة يطول السلام أكثر وتدب أقدامٌ أكثر داخل البيت، ارتفعت زغاريتٌ أكثر، وأضيئت غرفٌ أكثر، عاد المعتقلون.
وقف الفتى عقيلة ينظر نحو جازية ابنة خاله مصطفى مُستغرباً، كبرت الفتاة في المعتقل عقوداً أكثر من التي كبرها الطفل في المدينة، الطفلة التي غادرت تكبره بعام، عادت عجوزاً تكبره بعقود، شمس العقيلة الحارقة جعلت من وجهها مُتفحماً شديد السمار، نحت الجوع وجهها حتى برزت عظام وجنتيها وغارت عينيها في حفرٍ عميقة حفرها القهر وسط وجهها، حدثت جازية عقيلة عن المعتقل
عن الرمال
عن رجالٍ ماتوا ببطيءٍ وغطتهم الرمال
عن حشراتٍ وقملٍ كبرت حتى هجرت الروؤس ودبت على الرمال
يجلس مصطفى وسط اخوته يشربون الشاي فرحاً، يحكي لهم بأن الجُند تركوهم في منتصف الصحراء وغادروا، يقول بأنهم قوضوا السياج الحديدي وحملوه معهم، لكنهم لم يحملوا أياً من الناس، فجلس الناس ينتظرون من يُغيثهم، عاد البدوي منهم لنجعه القريب، بينما بدأ الأخرون في المغادرة بحثاً عن أمل، بدأت المؤنة في النفاذ من العائلة، صلى مصطفي الفجر ذات يوم وخرج مشياً وسط الصحراء يتبع طريقاً مُعبدة نحو اجدابيا، ينوي الرجل أن يمشي قرابة المائة كيلومتر من الصحراء لعله يجد مُنجداً لهم، في الطريق يلتقي بمن خرج من اجدابيا بحثاً عنهم، يعود معهم للمُعتقل حتى ويأخذ من تركهم خلفه، تستضيفهم العائلة في اجدابيا بضعة أيام، ثم تنطلق العائلة عائدةً لبنغازي، رحلةٌ كان الخوف والقلق رفيقاً لهم فيها، الرفيق الذي لم يرحل إلا عندما فُتِح باب المنزل رقم 3 في شارع اخريبيش.
مرت الأيام هادئة رتيبة على العائلة التي تنظر عودة الغائبان علي وعوض، شوقهم لعلي صار أكبر بعد أن فقدوا شيئاً من الأمل في عودة عوض الذي لم يصل منه خبرٌ منذ خروجه، الهدوء لم يطل، والشمل تفرق مرةً أخرى، اندلعت الحرب، وصلت أخبارها للمدينة، اختلف الطليان والألمان مع بريطانيا وفرنسا فدبت حربٌ امتدت لكل البقاع حتى وصلت لبنغازي التي كانت هادئة، وقف عقيلة يودع سليمان ابن خاله مصطفى الذي قرر الذهاب لمصر ملتحقاً بجيش التحرير السنوسي الذي تحالف مع الانجليز لمحاربة المستعمر الأصلي لهذه الأرض، قرر سليمان الذهاب لمصر حتى يثأر من الذي رماهم في الصحراء وشردهم، وقف عقيلة الشاب بالباب في كل ليلةٍ ينتظر عودة محمد شقيق سليمان الذي صار يخرج بعد كل غارةٍ متطوعاً في فرق انقاذٍ شكلها شبان المدينة بحثاً عن دُفنوا تحت انقاض قذيفةٍ رمتها احدى طائرات المتحاربين في حربٍ لم يكن للمدينة وسكانها فيها طائرة ولا دبابة، يقف عقيلة في الباب يستمع لدعوات النساء من داخل البيت بعودة الغائبين، بسلامة محمد.
تشتد الغارات قوةٌ وعنف، لا يعرف الناس من يقصف من، تبدل المسيطر على المدينة خمسة مراتٍ تقريباً، في تلك الليلة، يمشي عقيلة ذهاباً من باحة المنزل حتى بابه، وإياباً من الباب للباحة، كان القصف قوياً كما لم يكن من قبل، طال غياب محمد هذه المرة، يفكر في الخروج للبحث، يمنعه عبد الله من ذلك، قائلاً بأن غائباً واحداً يكيفيهم في هذه الليلة، لحظاتٌ قليلة قبل أن تشتعل السماء وتضيء في منتصف الليل ثم تعود مُظلمةً من جديد
يصاب عقيلة وعبد الله بالصمم
لا يسمعان شيئاً
أخر ما سمعاه كان دوي انفجار
أخر ما شعرا به كان اهتزاز كل شيءٍ من حولهم
يخرج الرجال من غرفهم يصرخون عن الذي حدث ولكن لا أحد منهم سمع ما قاله الأخر
يركض الكل نحو الباب قاصدين الشارع لمعرفة مالذي حدث بعد أن بدأ السمع يعود لهم تدريجياً
يركض جميع السكان في الخارج بين الباحث عن الماء والطالب للمساعدة في رفع عامودٍ وقع شخص
صاروخٌ لا يعرفونه، من طائرةٍ لا يعرفونها، تتبع قواتٍ لا يعرفونها ضربت منزلاً يعرفونها ويعرفون سكانه، يجري عقيلة نحو الركام فازعاً يحاول رفقة البقية انقاذ من يمكن انقاذه، لكنه يرى محمد واقفاً وسط الناس فيطمأن قليلاً.
تشرق الشمس فيرى الناس الضرر الذي تركه الصاروخ الذي اخطأ معسكر التوريلي فضرب منزلاً صغيراً لرجلٍ بسيط كتب الله له عمرٌ بأنه لم يكن تحت سقفه في تلك الليلة، لكنه حصد حياة اثنى عشر شخصاً من ذات الشارع، عائلةٌ كاملة فُقدت تلك الليلة وشيع السكان جنازتهم في ظهر اليوم، تكرر خروج محمد في الليالي اللاحقة رغم محاولات امه ثنيه عن ذلك، رغم ترجيها له بعدم الخروج، لكن محمد ظل مُصراً على رأيه في الخروج يقول عقيلة لعبد الله ذات ليلةٍ عن ذلك بينما ينتظران عودة محمد
"انتوا يا عيال خالي روسكم كاسحة"
صار خالهم حمد رفيقاً لهم في تلك الليالي وسط اصوات الطائرات المحلقة فوق سماء المدينة، يجلس حمد على كرسيٍ في وسط المنزل يدخن سجائره بشراهة، يسمعه عقيلة يتمتم قائلاً:
"مرعى يا راقي جردينة يا صلاي لكل الأفجار
افزع في الناس المسكينة راهي حارت من الأفكار"
يذكر عقيلة أيضاً بأنه في الليلة اللاحقة لتلك القذيفة رأى خاله يجلس شارداً ينزل الدمع من عينيه ويحاول اخفائه، خاله الذي لم ينهار عندما عرف بحكم اعدام شقيقيه، لم ينهار عندما أخذ الجند شقيقيه الأخرين، لم ينهار لغياب شقيقه الطويل، ينهار بعد تلك الليلة، ينهار بعد وفاة جاره ارحيمة الذي لم ير له مثيلاً، خاله ذا الشارب المعقوف الذي لم يره في يومٍ كاشفاً رأسه، يجلس هنا يبكي، عرف عقيلة بأن هذه الحرب فعلت بخاله مالم يقدر على فعله شيء، ابتعد عقيلة واتجه نحو الباب، وقف هناك، يدعو ربه ان يعينهم، ان يقوي أخواله و أن يعيد الغائب منهم، يسند ظهره لباب المنزل رقم 3.
ترتفع صيحات جنود الانجليز في الخارج، يرقص الجند فرحاً، لقد انتهت الحرب، لم ترى بنغازي الحرب منذ عامين تقريباً، دخل الجيش الانجليزي للمدينة رفقة جيش التحرير، دخل سليمان بيتهم منتصراً يقبل أيادي والده وأعمامه مرتدياً بدلةً عسكرية تحمل شعار السنوسية، كان ذلك قبل عامين، لكن الجنود يرقصون اليوم بعد أن سقط الرايخ الثالث وانتهت الحرب، فرح الناس أيضاً بهذا الخبر، يذكر عقيلة الشاب بأن خاله حمد جاء للمنزل فرحاً في ذلك مُهللاً وحامداً ربه، لن يخرج أحد بعد الأن من المنزل، لن يسقط صاروخ أخر، لن يُسمع صوت قتالٌ أخر، الخوف الذي حاصرهم طوال العامين الماضيان انتهى، دخل حمد للبيت حاملاً وردةً بلدية اعطاها لزكية تزرعها في وسط البيت، يحكي عقيلة بأن خاله لم يكن يعرف بأن الفرح الذي ينتظره كان أكبر، لم يرتفع صوت أذان العصر حتى ارتفع معه صوت البكاء الأول لابن خاله حمد البكر الذي جاء في يوم انتهاء الحرب ويوم قدوم الوردة، لتعم الفرحة المنزل رقم 3.
تداعب الرياح المارة فوق السور المحطم الوردة الواقفة في وسط المنزل، توفي عقيلة ورحل عن البيت، توفي قبله أخواله، مصطفي ومحمد وعلي ورجب وحمد بعد أن عادوا واجتمعوا جميعاً، وحده عوض لم يمت ولم يعش، فعوض لم يعد أبداً ولم يصل منه أي خبرٍ ولا مرسالٌ يطرق باب المنزل رقم 3 بشارع اخريبيش
Comments