تعصف الرياح الباردة بينما تنفث السماء قطرات ماءٍ تضرب وجهي المكشوف لها وأنا أمشي عائداً للبيت أحمل عشائي في كيسٍ ورقي هو أثمن ما أملك في هذه اللحظة، كعجوزٍ متقاعد، أجلس إلى الطاولة متناولاً العشاء وحيداً، قبل دقائق، أكد لي سائق التاكسي بأن الشتاء جاء متأخراً هذه السنة، وأن الفلَّاحة كاد أن يصيبهم الحزن بعد نثروا بذورهم في انتظار المطر الذي تأخر، ولكن هاقد جاء المطر يا سي حبيب، جاء قوياً حتى يكاد يحجب أضواء سيارتك الصفراء هذه، في طريق عودتنا، لم يحجب عني بخار الماء المتكثف على نافذة السيارة الناس يركضون هرباً من المطر أو يمشون على مهلٍ تحت مظلات تقي رؤسهم من البلل، ماذا لو خرجت من السيارة ووقفت تحت المطر مُرحباً بقطراته بحثاً عن ماءٍ يسقى بذوراً في أرضٍ يضربها الجفاف؟
جاء صوت قائد الطيارة ليبلغنا بهبوط الطائرة في مطار معيتيقة بسلام، تضرب قطرات المطر وجهي فور نزولي من درج الطائرة، كقطيع من الخرفان فتح لها الراعي مخرجاً للمرعى تجمع الركاب حول مخرجين في انتظار ان يسمح لهم شرطي بالعبور بعد ان يتأكد من أنهم لا يشكلون خطراً على الوطن، في وطنٍ يدخله الخطر في طائراتٍ خاصة ويملك فيه حصانة، بعد ساعةٍ من الوقوف، أُعطي للشرطي تعريفي فيسألني عن اسم والدتي، يعيد لي التعريف بعد أن تأكد اني و والدتي لا نشكل خطراً على الامن القومي، ينتظرني في الخارج صديقٌ ينقلني من المطار إلى شقة أنس الذي أصر وحلف ألف يمين على أن أبيت اللية عنده، شوارع العاصمة خالية بينما يهرب الناس من محاصرة المطر لهم، بينما تحاصرني أنا الذكريات داخل السيارة، أنا الذي فعلت كل ما في وسعي حتى أخرج من بنغازي هرباً من نفس الذكريات.
يضع موظف الجوزات في مطار بنينا الدولي -اصطلاحاً لا تعبيراً- يضع جواز سفري بجانبه ليخبرني بأن الجواز الذي أصدرته مصلحة الجوازات منذ قرابة الستة أعوام غير مُفعل، وأن علي أن أذهب لذات المصلحة لأطلب منهم تفعيل جواز السفر الصادر منهم، أنسحب إلى الخلف وأقف ساكناً منتظراً اياه، ينشغل من انسحب قبلي في اجراء المكالمات، بينما يذهب أخر ليبحث عن وسيط، أقف أنا ناظراً نحوه، لا أحد أتصل به ولا أذهب إليه كأي مواطنٍ بسيط، ينادني بعد قليل ليخبرني بأنه سيسامحني على هذه خطئي الذي لم أقترفه، ويختم لي خارجاً، ينادي المنادي فيقف الركاب صفاً، ألمح من بعيد أحد معارف العائلة فأهم بالذهاب نحوه مُسَلِّماً، ألغي الفكرة بعد ان اقترب منه أحد موظفين شركة الطيران رفقة موظفٍ في المطار يوصيه عليه حتى يسهل له سفره الميمون، أبتعد عنه خشية أن يعتقد بأن سلامي عليه هو طمعٌ في إحسانٍ منه.
قبل عامٍ وشهرٍ تقريباً، كنت هنا، مشيت في هذه الشوارع أتجهز لتجربةٍ جديدة أتاحتها لي الكتابة، كان الجو مشابهاً لما هو عليه الأن، مشيت في ذات الشارع قبل عامٍ وشهر، كانت السماء تُرسل من عندها مطراً أغرق الشارع والناس، لكنني لم أبتل سوى اليوم، كنا نمشي في الشارع سوياً، تقيني هي من المطر، من البرد، ومن الخوف، أرى صورتها اليوم في كل زقاقٍ من هذه الأزقة، قبل عامٍ بالتمام كنت هنا، لم تكن هي هنا، كنت متجهاً لرحلتي التي خططت فيها كل شيءٍ معي، وزرعت معي كل البذور، تلك البذور أنبتت شجرةً لا أوراق لها، شجرةً يابسة لم تُفلح أمطار تونس وطرابلس وبنغازي وبرشلونة في سقيها.
قبل ثلاثة أعوامٍ وشهر، كنت هنا، كنت عائداً للتو من قبرص التركية بعد أربعة سنواتٍ من الاغتراب عدت بعدها بفرح، بدروس، وبشهادة، لم أحفظ أي من شوارع طرابلس حينها فقد كان ابن عمتي الذي استقبلني متكفلاً بنقلي من أي مكانٍ لأي مكان، حتى انه هو من تكفل بنقلنا معاً من اربع شوارع عرادة إلى الفويهات ببنغازي، أحاول في هذه المرة أن احفظ الطرق، أمشي في وسط المدينة محاولاً تذكر الشوارع والاسماء، ومحاولاً استبدال صور الدمار في شارع المختار بصورٍ مشابهة أقل قبحاً من الواقع، أتجنب بعض الشوارع والأزقة خشية ملاقاة شخصٍ أو ذكرى صدفةً، لكن الأشخاص والذكريات يظهرون أمامي في كل منعطفٍ، يومي الثالث هنا كان عاصفاً، هبت الرياح الجنوبية محملةً بالغبار وطيف أحدهم، قبل عامٍ لم أكن هنا، كنت أقف محاولاً طمئنة أحدهم بكل هدوء، لا أذكر كيف نمت في تلك الليلة، ولا أذكر كيف استطعت الخروج من غرفتي، ولا أذكر كيف وقفت أمام ذلك الشخص مقدماً الدعم النفسي له متجاهلاً ما بداخلي، أذكر فقط بأن المنديل لم يفارق يدي طول اليوم، ولم تفارق النظارات الشمسية عيناي طول اليوم، منذ ذلك اليوم، صرت أرى الغربان تحلق في السماء. تنطلق الطائرة مُسرعةً على المدرج قبل الاقلاع، قبل عامٍ وشهر، كنت أخشى أن تفشل الطائرة في الاقلاع في هذه السرعة، تتسارع دقات قلبي بينما التصق بمقعدي، لكن كل هذا اختفى الان، ترتفع الطائرة تاركةً أرضية المطار، كاشفةً بنغازي من الأعلى، أفشل في التعرف على المدينة القبيحة من السماء، لم تلدني أمي في الظهرة بطرابلس، لم ألعب الكرة في أزقة الجميزة ببيروت، لم أتعلم الدخان والشتائم في شارع الرامبلا ببرشلونة، ولكنني أُميز تضاريس كل هذه المدن من السماء، وأعجز عن فعل ذلك معك، وسحقاً لعجز المحب في معرفة محبوبته ورؤيتها، بنغازي، يا حب الطفولة، أو ما تبقى منه، أو يا من تبقى من حبيباتي، لم تُجحفني هذه الشوارع مثلما فعلت شوارعك، وان فعلت فلها الحق في ذلك، لم تُفضل هذه المدن أحداً علي، وان فعلن فلهن الحق في ذلك، هذه المدن التي صارت كعشيقاتٍ لي أهرب من ذكراك إليهن فأجد ما هربت منه واقفاً فيهن.
أُنهي عشائي، وكعجوزٍ متقاعد أدخل للنوم قبل منتصف الليل بساعتين، أُدرك عشوائية كلماتي، ولا أدري إذا كان ذلك بفعل النعاس، او التخمة، قد يكون بفعل كأسي الوردي، أو قد يكون بفعل جراحٍ لم تندمل بعد، لكنني أعرف أنني سأخلد للنوم هرباً كما فعلت قبل عام.
Comments