هل تذكرني؟
هل تعرفني أصلا؟
ربما قد تغيرت قليلاً عن لقائنا الأخير … ربما كثيراً، ثلاثة عقودٍ مرت أيها الطفل الصغير، ثلاثة عقودٍ كاملة على ليلة الثلاثاء الماطرة تلك في أواخر يناير عام 1994، تغير الكثير فيها، لم أحقق حلمك في أن أكون لاعب كرة ولا أن أكون مغنياً صوتنا لم يسعفنا صوتنا في ذلك، لم أجعلك طياراً، ولا طبيباً، لم تساعدنا الظروف على ذلك أيضاً، لكنني وصلت لشيء، لا أعرف اذا ما كان ذلك يرضيك أم لا، لكنني أحاول أيها الطفل، مازلت أكتب … لا أعرف لماذا لكنني مازلت افعل ذلك، أكتب عن كل ما عشناها أو مررنا به، ولقد عشنا الكثير يا صديقي الصغير، دعني أخبرك مثلاً بأننا عشنا في قبرص التركية أربع سنوات، أربع سنواتٍ كانت بحلوها ومرها، مرها كان أكثر من حلوها لكن حلوها كان أكثر ما ظل راسخاً في ذاكرتنا، ستسهر في ليالٍ كثيرة واقفاً في المطعم تسرق الراحة في سجائر سريعة تدخنها في وسط البرد بينما تدفيك الأغاني التي حملتها معك من بنغازي دون حقيبة، ستنام في ساعات الفجر قبل أن تستيقظ ذاهباً للجامعة، لم يرك أحدٌ حينها تتألم، لم تتكلم مع أحدٍ عن الصعوبات، لكنك الكل رأك فرحاً بتخرجك، تصرخ ملىء صوتك فرحاً وانتقاماً من كل الصعوبات، من العزلة، من الغربة، من التعب، من موظف المصرف المرتشي، ومن ليبيا، كنت -وأجزم بأنك ستظل- كاتماً لكل شيء، لا تسمح لنفسك بالحزن في العلن أمام أحد، حتى عندما فقدت أعز الناس … وكم تكرر ذلك من مرة، وعلى ذكر الفقد يا صغيري، لم تجد في هذا العمر رفيقاً أكثر من الفقد نفسه، حتى اعتدت عليه، أعني بأنك لم تعد تهتم بمن جاء ومن سيرحل، لم يعد الرحيل يخيفك، ولا اعلم اذا كان يرضيك أم لا.
صديقي الصغير الحالم، هل تذكر ركوبك الطائرة للمرة الأولى، كنت حينها في عمر الست سنوات تقريباً، متحمساً، حالماً لا تعرف قيمة الوقت ولا المكان، لم تعرف حينها مكان طرابلس التي كنت فيها، لم تعرف موقع بنغازي التي كنت عائداً لها … لم تتخيل حينها أصلاًَ بأن هناك مكان أخر غير بنغازي في العالم، مرت السنوات وعرفت وتعرفت على مُدنٍ غير بنغاري، ولكنك ترى بنغازي في العالم، أينما ذهبت وأينما حللت، بنغازي التي تُبقي صورتها في ذاكرتك تُخفيها عن أعين الناس كأنها شمعةٌ تنير لك طريقاً وتزيل عنك برداً، ركبت الطائرة بعد تلك المرة مرات، صرت تحفظ اجراءات السلامة، تعرف موعد تقديم الطعام، وما يجب فعله في الاقلاع والهبوط، صارت الرحلات أطول، تزداد طولاً ومللاً في كل مرة، تبتسم مُتصنعاً أمام شرطي الجوازات في كل مطار، تبتسم بذات التصنع للسيدة الواقفة خلفك في الطابور بعد أن داس إبنها على قدمك، كل شيءٍ هنا يا صغيري بتصنع، كل شيء، الابتسامات، الحزن، قصص النجاح، حتى الحب صار مصطنعاً، لكنك تمضي، بمللٍ في بعض الأحيان، بحماسٍ في لحظاتٍ نادرة، لا يهم كل ذلك، المهم أنك تمضي.
عزيزي الصغير، لقد رحل عنك الكثيرون، ذهبوا دون وداع، دموعك التي ما انفكت تنهمر في طفولتك، ستطلبها في كبرك لكنها لن تنهمر، ربما لو كان لنا لقاءٌ لنصحتك بأن تحفظ بعض هذه الدموع لمن يستحقها، ربما لو التقينا في ظرفٍ ما أو زمنٍ غير هذا الزمان، لحدثتك عن كل هذا، ربما لقلت لك بأن تبحث عن نفسك في مكانٍ غير كلية الطب، لم تكن لك من الأساس، لأخبرتك بأن هذا العالم يا صغيري مسرحٌ كبير الكل فيه ممثلين، وأن في عصر العولمة كل شيء بات عرضةً للتقليد والتزييف حتى الوجوه، لحدثتك عن بوهديمة، الكاوة المقابلة لبيتنا تعمرت وصارت مسجداً لكن الطريق له ماتزال تغرق كل شتاء حتى يشق على المصلين الوصول له، اختفت الفئران من حيينا بعد أن اختفت الكاوة، الكيش لم تتغير كثيراً ماتزال كما هي، العمارة رقم 201 مازالت كما هي، أمر امامها كل يومٍ تقريباً، ألمح شرفات الشقة رقم 1 ماتزال تبدو كما كانت في أخر مرةٍ جلست فيها في إحداها تصنع قصصاً لم يسمع عنها أحد مع ألعابك، لم يعد الأطفال يلعبون أمام العمارة ربما لأن الكيش لم يعد فيها أطفال، أو ربما لأن الأطفال لم يعودوا يعلبون الأن … لا أعرف، تتوقع أنني في هذا العمر صرت أكثر معرفةً منك، لكنني أنفي ذلك وبكل أسفٍ أيها الطفل الكبير، ربما تكون أنت أكثر مني معرفةٍ فقد تاهت مني الإجابات والاتجهات وصرت منفياً في وسط صحراء لا يعرف عنها شيء ولا يعرف أين يسير، أيمضي إلى الأمام كما مضى الناس، أو يبقى في مكانه لعل النجدة تأتي، الفويهات هي الأخرى لم تتغير، اختفت الضوضاء قليلاً في الشارع، انفضت الجموع من شوكة الجامع ولم تعد عامرة، شوارعها صارت أضيق قليلاً، لكنها لم تتغير، المتغير الأكبر في كل ذلك هو أنت، أنت فقط، وأنا لا اقف هنا اليوم لأطلب منك ألا تتغير، سأكون أحمقاً إن فعلت، ولن أطلب منك الا تحلم، الحلم هو ما صنعك، حتى لو لم يتحقق، احلم كما تريد ولكن لا تنتظر مني أن أحقق كل ذلك، ابق بخير.
رفيق الحرب والسلام،
صاحب الشباك
التيس الأعظم
لقد قرأتُ ما كتبت لي، و سرني أنك كتبت فأعدت قرائته مرةً ثانية وثالثة، وسرني قبل كل ذلك بأنك قرأتهُ أساساً، أعلم بأنك لم تعد تقرأ، وربما تكون الكلمة قد فقدت قيمتها عندك، لكنني عكسك، لا أعرف للمعاني من شكلٍ سوى الكلمة، الصورة والصوت لا معنى مميز لهما دون الكلمة، ولهذا مازلت مؤمناً بالكلمة فنشوة الصوت تختفي عند اختفائه، وبريق الصورة يبهت مع الأيام، لكن الكلمة تظل ثابتة، يظل نقش كلماتها خالداً حتى وان جارت عليها الأزمان … أو هذا ما أراه على الأقل.
لست عابر السبيل الوحيد هنا في بنغازي، ولا أحد يعرف حقيقةً قوت أهل هذا البلد، لكنني أعرف الشراب الذي يروي هذه الأرض وسكانها، شرابٌ دافيءٌ له رائحة الحديد لم تروي هذه البقعة عطشها منه، ولم ينفك سكانها عن طلبه، كلنا صرنا عابري سبيل، أنا الذي أسكن هنا استيقظ كعابر سبيل، أنام كعابر سبيل، واسب الأحمق الذي قابلني في الصباح كعابر سبيل، أعتقد بأن أشد أنواع العذاب بأن تصبح عابر سبيلٍ في الشوارع التي جريت فيها طفلاً يلعب قبل أن تقف في نواصيها مراهقاً، ثم تجلس في مقاهيها تشكو من البطالة شاباً، أن يصبحك ملجأك منفى، وبأن يصبح اترابك تائهين، البنغازة أيتام الأحلام والآمال صاروا مشردين لا يعرفهم ولا يعرفون أحد، يحجون إلى منارة اخريبيش كل يوم، يبكون عند ضريح عمر المختار رغم أن سي عمر ليس مدفوناً هناك، ربما يبكون أنفسهم … ولكن هل يبكي الميت؟ مازلت أرى نفس الوجوه التي كنا نراها قبل عشر سنوات، لكنها تغيرت، أصحابها لم يعودوا كما كانوا، صاروا نصف أشباح، وأجزم بأنهم يروننا كذلك، أعرف بأنني نصف شبح منذ نوفمبر ذاك، لم تعد للحياة ألوانٌ بالنسبة لي، كل النكهات من كل شيءٍ اختفت، ولا علاقة للعقود الثلاثة التي عشتها بذلك، لقد توقف كل شيءٍ عندما كنت أبلغ من العمر سبعة وعشرون عاماً، نوفمبر ذاك كان اكثر الشهور دفءٍ وآخرها، ولم يأتي الربيع منذ ذلك الحين.
أيها التيس الأعظم، السنوات العجاف تلك كانت دافئة أكثر، لم يكن فيها شيء مصطنع، كل مافيه من كرب وسعادةٍ كان حقيقياً، لم يجعل مُحن العالم كل شيء رومنسي، كانت المتاعب مشاكل تمر بها وليست جزءٌ يجب أن تقوله في قصة نجاحك، لم تكن الكتابة حينها قطعة قماشٍ يمسح بها كل مراهقٍ عرقه ويرميها للناس، لم يجعل العالم حينها كل شيء مادياً كما بات الأن، كانت أيامنا تلك ربيعاً لم نعرفه، وحتى ربيع مدينتنا قبلي يملؤه العجاج، ولكن ذكرياتها هي ما يبقينا، تلك الذكريات التي صارت قوتاً لنا.
رفيقي العزيز، ربما أطلت الحديث عليك فدعني أختم بقولي هذا، ناكفتني ذات يومٍٍ قائلاً بأنه من الجيد أنني لم أُسجن والا لعانى الناس من قصصي عن السجن، صديقي العزيز إنني في سجني هذا منذ أعوام وسأقتبس من أكثر الكلمات ركاكة و أقول بأنه سجنٌ لا جدران له، وأنه أسوء أنواع السجون، وأنني في انتظار خروجي ونهاية غربتي معاً، وأقول لك من منفاي هذا ايضاً، يكفينا بأننا لم نحتج في يوم لأن نكتب اسمائنا ثلاثية حتى نصل لشيء، يكفيني بأننا وصلنا لما وصلنا إليه دون أن نستخدم أسماء أبائنا حتى ندخل لمكانٍ ما، وربما لهذا أكتب، ربما لأن شخصاً عشوائياً قرر أن يقرأ هذا التهريس الذي أكتبه لأني أنا الذي كتبته وليس لأن والدي فلان، وأقول ربما لأنني لا أعرف سبباً حقيقياً واجابة لسؤالك عن لماذا مازلت أكتب وأكتب لك بالتحديد، لكن الكلمات هي ما يبقيني على اتصالٍ بتلك الذكريات، فربما أكتب لأسافر لها بين الحين والآخر، ربما أكتب لكل هؤلاء الذين لم يعودوا يقرؤون، لك أنت وللآخرين، وانت من دون البقية من يمكنه القراءة في يومٍ من الأيام فالموتى لا يقرأون، ربما أخاطب بالكلمات من لا يمكنني أن أخاطبه بالصوت، ربما أكتب لأحفظ قليلاً من ذكريات هذا اليوم للمستقبل، وربما لأوثق لنفسي في المستقبل ما عشته اليوم، ربما لهذا أكتب، وربما لهدف لهذا كلها، ربما كل ما في هذه الكلمات هو سعيٌ بدون هدفٍ، هي فقط صرخاتٌ مكتومةٌ في وجه كل شيء.
Comments