السابع والعشرون من شهر يناير 1994
تخرج امي من مستشفى الجمهورية تحمل ابنها البكر الذي جاء للدنيا منذ يومين في ليلة من ليالي يناير الباردة، تتمنى أمي عند خروجها وتدعو لعمتي التي دخلت هي الأخرى للمستشفى بأن يرزقها الله بولدٍ هي الأخرى، وكان ذلك، في اليوم الذي خرجت فيه انا من المستشفى، خرج ابن عمتي هذا للدنيا، لم نكبر على مقربة من بعضنا، لكنه كان دوماً هناك، أذكره في ومضاتٍ متقطعة من ذكريات طفولتي، في اليوم الأول لي في المدرسة مثلاً، كنت أقف وحيداً في المدرسة بين مجموعة كبيرة من الأطفال والبالغين الذين لا أعرف فيهم أحداً، من بين كل تلك الوجوه برز وجهه، لمحته من بعيد، عندها فقط أحسست بقليلٍ من الطمأنينة
كبرت انا وكبر ابن عمتي، ظلت علاقتنا كما هي عليه، انقطاعٌ طويل وتواصلٌ قليل، مع ذلك، كنت دوماً أعلم علم اليقين بما أنني إذا ما احتجت شيئاً سأجده بجانبي، تماماً كما وجدته في يومي الدراسي الأول، تماماً كما وجدته عندما اضطررت أن أنزل في طرابلس العاصمة بعد عودتي من قبرص، كنت دوماً اعايره بأنني أكبره بيومين، يُذكرني هو بذلك في كل ذكرى ميلادي، و أُذكره أنا بذلك بعدها بيومين، كنا ربما نشعر بأن الأعين صارت موجهة صوب أحدنا لينتقل لعش الزوجية، أخبرته ذات يومٍ في طرابلس بأن يتوكل، رد علي قائلاً “لا انت الأكبر”، أنكرت ذلك للمرة الاولى والأخيرة ربما.
مات ابن عمتي مطلع تشرين، مات وتركني أكبر وحدي وقد توقف عمره عند السابعة وعشرين، مات بعد أن دهسه سائقٌ احمقٌ، دهسه ولاذ بالفرار دون اكتراثٍ منه، في ذلك اليوم شعرت بالعجز، بأنني تائه، شعرت وكأن الزمن سلب مني عكازاً كنت استند عليه عند الحاجة، لم أعرف ماذا أفعل في ذلك اليوم، فوجدتني أسير في احضانك باحثاً عن شيءٍ من الطمأنينة، أطلب شيئاً من الدفء بعد ضرب البرد جوفي وفيك وجدت الدفء حتى غالبني النعاس.
تونس، تشرين، 2021.
لا أعرف كيف مر شهر تشرين، او على الاقل اغلبه، بالرغم من أن الشتاء لا يبدأ الا في اواخر قجمبر (ديسمبر) في التقويم الليبي، إلا أن برد نوفمبر هذا كان شديداً قارصاً، ربما لأنني كنت بعيداً عنك أسير في شوارع تونس الخضراء، تونس التي كنت دوماً اراك فيها في كل مرة زرتها، التي حملت كل شوارعها شيئاً من عطرك خارجاً من فُلهاً منقولاً على نسماتٍ خفيفة باردة تضرب وجهي بينما كنت أسير ليلاً عائداً للبيت.
برشلونة، كانون 2021.
تقف الحافلة التي أقلتني من المطار في ساحةٍ ما، أنزل منها وقد أحكمت إغلاق سترتي بعد أن صفعني البرد، أحاول أن أتبع التوجيهات حتى أصل لفندق إقامتي، أجد نفسي في شارعٍ كبيرٍ تزينه الأضواء ويعج بالناس، الكثير منهم، يتحركون في كل إتجاه، أجر خلفي حقيبتي وشعوري بالتيه، أنظر نحو كل شيءٍ بذهول طفلٍ يدخل محل ألعابٍ للمرة الأولى في حياته، تخطرين ببالي في كل خطوة، كيف لا ولولاكِ لما كنت أخطو هنا في برشلونة، تمنيت لو كان بالإمكان أن تكوني هناك معي، لتشاهديني وانا أعترف للمرة الأولى بأنني كاتب، ليتك كنت هناك حتى ترين كما كانت تشبهك برشلونة في جمالها، في نسماتها الدافئة التي تبعد القليل من بردها القارص كما كنتِ دائماً تبعدين عني برد كل شيء، ليتكِ رأيتي كيف كنت ناشطاً بين الإفرنج والعرب، تسألني الصبية اللبنانية عنك بينما كنا نقف في محلٍ ما، للمرة الأولى في حياتي أرتبك عندما يتعلق الأمر بك، أجيب بالنفي والتأكيد في وقتٍ واحد، للمرة الأولى في حياتي لا أملك اجابةً واضحةً عنكِ، أهرب من الحوار بالتزام الصمت بعد الإجابة، وأهرب من ذكراك بالمشي في شوارع المدينة لأجدني هارباً من ذكراك إليك، كل شيءٍ هناك كان يذكرني بك، تذكرني بك ابتسامة طفلٍ يمشي فرحاً بأضواء الميلاد، أشعة الشمس المستحية من خلف الغيوم، تذكرني بك عجوزٌ تختبئ من البرد خلف ذراع زوجها، يذكرني بك مشردٌ وجد الأمان على قارعة الطريق بعد منتصف الليل فافترش الأرض ونام، أراكِ في ميسور الحال خرج من شقتها ليعطي المشرد لحافاً يقيه البرد و أكلاً يطرد عنه الجوع، جلست على شاطيء البحر على تمام الساعة السابعة صباحاً بعد أن تمكنت إيجاد كوب قهوة، أنظر نحو البحر قبل شروق الشمس
أراك تجلسين بعد الأفق
أو تمنيت أن أراك بعد الأفق
حتماً ستكونين مبتسمةً هناك
تُشرق الشمس
أحسد الشمس لأنها رأتك قبل أن أراكِ أنا
أراك في طير النورس المحلقة فوقي
كنتِ دائماً مثل طيور النورس، تحلقين عالياً، تحومين فوق الشاطيء والبحر، حتى أصابت رصاصةٌ جناحك، لكن جناحك لم يصب بأذى، بل زاد قوة وزاد تحليقك عالياً، جناحي أنا الذي كُسر فماعدت قادراً على الطيران.
طرابلس الغرب، كانون،2021
لم أخف عندما صعدت الطائرة إلى طرابلس من اسطنبول، لكنني خفت من أول لحظة لامست فيها إطارات الطائرة أرضية المطار، ربما لأنني أقترب منك، ربما لأنني أخشى أن أعود لك ولا أجدك، لا تشبهك طرابلس ولا إسطنبول في شيء، لكنني تمنيت مرة أخرى أن تكوني حاضرةً فيهما، ربما سمعتي حينها والد صديقي يصفني بالقَصَّاص، انا الذي كتبت كل قصصي عنكِ وفيكِ وإليكِ.
بنغازي، كانون، 2021
كما كنت متوقعاً، عدت ولم أجدك، ولا أظنني أجدك بعد اليوم، يقول عمنا النيهوم بأن بنغازي الحقيقية ماتت مقتولة في الحرب، و أقول له بأن بنغازي لم تمت في الحرب فقط، بل قُتلت ايضا في حادث سير، مازلت أشعر بالغربة، مازلت أبحث عنكِ في شوارعكِ، ولم أفهم بعد بأنني غُربتي لن تنتهِ إلا بإنتهاء غَربة كلماتي هذه، وأن كلماتي ستظل أمد الدهر مَغتربةً وغريبة، لم أفهم بعد بأنني غربتي ليست غربة المكان، إنما غُربة الزمان، بأنني سأظل مُغترباً بين تشرين وكانون.
コメント