الجمعة، أواخر شهر نيسان ابريل، قبرص متوسطية الموقع لكن حتما ليست متوسطية المناخ، فلا شيء في هذا المناخ طوال الأربع سنوات التي امضتيها هنا كان له علاقة بمناخ المتوسط، حضرت قهوة الصباح ثم خرجت إلى الشرفة حتى استمتع بنسيم الصباح، في كل مرة خرجت فيها صباحاً كانت كلمات اغنية الكرتون القديمة ابطال الديجيتال اول ما يخطر ببالي ” نادانا نسيم الصباح في مشوارنا للنجاح”، حتما لم تكن رشا رزق تقصد هذا النسيم لأنني لم ارى النجاح التي كانت تعنيه، في ركن الشرفة وضعت منذ سنتي الثانية هنا كرسياً صرت اسميه لاحقاً بكرسي العرش و طاولةٍ بجانبه، لم تكن الشمس قد وصلت بأشعتها اليهما بعد، سريعاً جلست حتى انهي قهوتي قبل أن تحاصر الشمس المكان مثلما حاصرت قوات المحور طبرق قبل عقود، كان محمد حسن قد بدأ يغني يأمر ذات القصاص الطويلة بأن تنخ ( و نخي يا أم قصاص طويلة)، من ميزات الصباح أنه يخلو من ضوضاء البشر، جلست اتأمل السماء، بدأ فكري في التجول ذهابا و ايابا، يخطط للمستقبل، في الحياة، في الماضي و الحاضر، أفكر في منزلي بكندا أو في اذربيجان، في اولادي و أحفادي، أتذكر أياماً خلت، في من اكتشف القهوة اول مرة، حتما لم يعلم حينها بأن القهوة، هذا المشروب الذي استخدمه الانسان قديماً حتى يصبح اكثر نشاطاً، ستصبح علامة من علامات الثقافة، لا اعرف حقا كيف يحول البشر كل شيءٍ الى علامة أو رمزٍ لشيءٍ اخر، فاللغة وسيلة التواصل صارت رمزاً للتعلم، و السيارة وسيلة المواصلات اصبحت ترمز للحالة المادية، و الملابس التي اخترعت لغرضٍ ما صارت مدعاة للفخر، و هذه الأخيرة وحدها تجعلك تجزم بأن تطور داروين كله لا اساس له من الصحة، فبالرغم من جهلي بمعدل ذكاء القردة لكن حتماً لن تتباهي يوماً بقطعة قماشٍ ترتديها.
قطع لحظات تفكيري هذه صوت صديقة جارتنا من أمام العمارة و هي تتحدث إلى أحدهم، تلى ذلك صوت جارتنا نفسها مودعة جدتها، انطلقت الفتاتان نحو رأس الشارع، و انطلق خلفهما نظري يتابعهن حتى انعطفن يميناً، حاولت أن استعيد حبل أفكاري و اكمل جلستي الصباحية هذه، لكن هذه المرة قاطعني صوت جارنا في البناية المقابلة و هو يقوم بتشغيل سيارته و استعجال ابنه الذي خرج من العمارة حاملاً حقيبته على كتفه، و قد علت وجهه علامات النعاس، و لم أبحث قبلاً عن من كان وراء فكرة جعل الاطفال يحملون حقيبة الكتب هذه،لكني متأكدٌ بأنك إذا ما بحثت فستجد أن اول من قام بذلك كان ليبياً، فكل شيء في هذه الحياة ليبي، فالليبييون لعبوا الكرة قبل الانجليز و افضل من البرازيلين لكنهم لا يريدون التأهل لكأس العالم حتى لا يفسدو متعته، و الفن الليبي افضل انواع الفن، ولم يقد احدٌ الطائرات افضل منا نحن، نحن اكثر الشعوب عبقريةً في كل المجالات، لكن اعداء النجاح و “الحسدية” يحاربوننا، ركب الطفل السيارة بجانب والده، و رغم انني لا اتقن التركية ولا اجيد قراءة الافكار، لكن ما رأيته على وجه ذلك الطفل كان يقول بأنه يفكر في شيءٍ واحدٍ فقط، ” متى سأكبر و ارتاح من كل هذا الهم في كل صباح، فالاطفال باختلاف ثقافاتهم يجمعهم تفكيرهم البريء الذي لم يشوهه المجتمع بعد، و تجمعهم برائتهم التي تجعلهم يظنون بأنهم عندما يكبرون فإن كل همومهم ستزول، لا يعلمون بأن الهموم التي تنتظرهم هي اثقل من حقائبهم هذه، لو كان بإمكاني أن انصح هذا الطفل بشيء فسأقول له لا تكبر، أو لا تستعجل على ذلك، و ارجو ان تخبر والدك بأن يصلح عادم سيارته لأنه قد خنقنا.
كنت قد انتهيت من شرب قهوتي و قد نهضت حتى اجهز نفسي للذهاب إلى الجامعة، استوقفني حينها جمال ما رأيت، قطعة من النور الابيض تمشي على آلأرض في شارعنا، شعرٌ اسود طويلٌ يزين رأسها و كأن النهار و الليل قد اجتمعا مع في مكانٍ واحد، لو كان بيدي لعدت و جلست أكتب عنها الاشعار و القصص، لكن …
Comments