top of page

في باب المدينة

ahmedobenomran

يقوب الناس في حديثهم عن طرابلس الغرب بأنها تخلوا من الغرباء في ظهر الجمعة وبأن أهلها فقط هم من يبقون فيها بعد أن خرجها الدواخل وعادوا إلى قراهم ومدنهم الأخرى، ولهذا هي هادئةٌ في الجمعة،، لكنني مع ذلك قابلت مجموعةً بدوا وكأنهم أصدقاءٌ يقول لسانهم وكلامهم بأنهم من الصين، مشوا في الشارع ولم يعترضهم أحد، دخلوا للمقهى ولم يعترضهم أحد، وأخد ابنهم يرمي الحجارة في الأرض دون أن يعترضه أحد، لا أدري متى صار الصينيون من سكان طرابلس.


لطرابلس القديمة سورٌ يفصلها عن بقية المدينة … وربما عن بقية ليبيا، خطٌ زمنيٌ واضحٌ يفصل بين العصور، وما خلف السور كان أكثر سكوناً من خارجه كما كان الحال دوماً، بضعة أبوابٍ مفتوحة وقليلٌ من المحال التجارية والمقاهي، وبعض الهاربين من الضوضاء الباحثين عن السكون يجلسون هنا وهناك، في أحد الأزقة رأيتها، او رأيت طيفاً منها، مرت تمشي مسرعةً كعادتها وكأنها تجري تبشر عقيماً بقدوم مولوده بعد ان إنتظره لعقدٍ من الزمن، لكنها عينها... هي عينها، بدت أصغر من أخر مرةٍ رأيتها فيها، أكثر نشاطاً، وكأنها صغرت في العمر وعادت فتاةً تحمل أحلامي بين ثنايا شعرها، لكنها عادت لتختفي وتتوه بين الجموع، دون أن تترك محرمتها... أو أي شيء لأمسح به دموعي، قاومت رغبتي بالوقوف متحسراً كحسرتي الأولى وأكملت المشي بين أزقة المدينة، للمدينة أبوابٌ قيل بأنها كانت ثمانية تفضي لداخل المدينة ما تزال بعضها تقف منتصبة أو تقف بقاياها في مكانها الأول، أو يقف اسمه صامداً بعد أن مُسح الباب وبقاياه، سبق دخولي للمدينة حديثٌ مع أحد الأصدقاء، لم يكن الحديث عن حل المشكلة الليبية، أو عن أزمة الهوية الليبية بل كان معقداً أكثر من ذلك، سألني الصديق عن سر عبوسي الدائم، وأنا لا أجد سببا لذلك حقاً، بل في الواقع أنا لا أذكر عبوسي الدائم أساساً، هل تذكره أنت يا رفيق الحرب والسلام وصاحب الشباك؟ ترى هل لهذا كانت كل قطط الشارع تهرب فزعةً عندما تراني حتى وإن كنت أحمل لها الطعام؟ إنني لا أذكر ذلك حقاً، أذكر وأعرف بأني قليل الكلام أحياناً، وقد يخرج الماء من النار قبل أن تخرج مني كلمة، وأنت تعرف ذلك أيضاً ورحلة قبرص تشهد.


كنا حينها نجلس كل يومٍ في مقهانا … ملجئنا من الحرب، بنغازي حينها حتى في حربها كان فيها قليلٌ من الدفىء والضحكات الصادقة، حينها كنت قد عقدت العزم على ذهابي لقبرص ولم أخبرك، بالرغم من اننا نجلس نتحدث عن كل شيء عن البنزينة، عن الكهرباء المقطوعة، عن ارتفاع سعر السجائر والقهوة، عن الحرب، عن كل شيءٍ إلا ذهابي ، و لم أحدث أحداً عن ذلك، وفاجئتك بذلك، فاجئتك في وسط نشوتك بعرض فيلمك الوثائقي قبل سفري بثلاثة أيام، وانطلقت أنا إلى قبرص، وبقيت أنت هناك في بنغازي، تجلس في ذات المقهى، تشرب ذات القهوة، وتسب سراً نفس الأشخاص الذين كنا نسبهم معاً، وفي قبرص، في تلك الجزيرة -التي قلت أنت عنها يوماً بأنها تماماً مثل المرج القديمة لكنها بجامعات- هناك أكدت أنا حبي للمدن القديمة، لماقوسا أيضاً مدينة مُسورة وجدت فيها راحتي، جلست هناك في لياليٍ عديدة أراقب البحر ومشيت في أزقتها أياماً عديدة، لمدينة ماغوسا المسورة تلك ثلاثة أبوابٍ كبيرة يطل أحدها على البحر، وتقول الأسطورة هناك بأن جان بولات أحد القادة العثامنيين فقد رأسه عنده لكن جسده ظل يقاتل حتى خاف منه جنود البنادقة فاستلسموا، قد يقول البعض بأنه مازال يجوب المدينة يحميها، لكنني أؤكد بأنه ينام في صمت، تشهد على ذلك الليالي التي سمرتها فوق ضريحه أراقب السكارى الباكيين عند البحر، في تلك المدينة مزيجٌ وكأنها كتاب تاريخ، تفصلك خطوات بين العثمانيين والبنادقة والانجليز رغم ان السنوات بينهم كانت طويلة، أذكر أنني مشيت هناك في يوم أحد ربيعي، أغلب المحلات كانت مغلقة، الشوارع كانت شبه خالية، لا يأتي السياح كثيراً يوم الأحد فيكون كل شيءٍ هاديء، هناك كنت أنا أكثر الأشياء إزعاجاً، تناظرني قطط الشارع بازدراء وتكاد تضربني بعد أن قطعت غفوتها، كانت هناك أيضاً، لمحتها من بعيد تقف على أحد المحلات تشتري شيئاً، كانت أكثر هدوءً واشراقاً من أخر مرةٍ رأيتها فيها، وجهها كان أكثر نضرة، لكنني لم أذهب نحوها، وددت لو أنني ذهبت، وددت لو أنني احتضنتها مالئاً شوقاً تراكم عبر الأيام كما تراكمت ديوني في تلك الأيام، لكنني جفلت، خفت كعادتي، فلم أذهب، ولم استمر في المشي في ذلك الشارع وانعطفت نحو زقاقٍ أخر… كعادتي، مشيت حتى وصلت البحر، وجلست هناك أرمي الحجارة مُزعجاً الأسماك باحثاً في رأسي عن اجاباتٍ لأسئلة كثيرة لم يكن منها البحث عن سبب عبوسي الدائم.


لم تنتهي الغربة عندما حطت بي الطائرة بمطار مصراتة في ليلةٍ ماطرة أواخر أكتوبر، ولم تنتهي عند دخول لمنزل جدي بشارع نهر الليطاني بحي الفويهات، ولم تنتهي الأسئلة أيضاً، بل استمرت واستمرت وامتدت تربط خيوطاً بين الأقطار، لي في قبرص أسئلة، وفي بيروت، وفي تونس، وفي تونس أيضاً مشيت في الشوارع القديمة، مشيت وسط الحومة العربي كما يسمونها، وقفت على بائع مقروض أصر أن اتناول قطعةً قبل أن أشتري منه، و في دكانة صغيرة وقف فيها شيخٌ بدا أكبر من الزمن نفسه، تحيط بيه أكوام الصوف الملون كأنها تطالعه بشوقٍ تنتظر أن ينسجها لتصبح شنة (شاشية) لتجلس على رأس شيخٍ أو فتى تتوجه مَلِكاً ولو على نفسه، أحاول أن أصف له لون الشنة التي أريد فيجيبني بصوت هامسٍ يخاف أن يزعج الصوف من حوله


"تبي بنغازية؟"


فأهز رأسي موافقاً مبتسماً، ينشغل الشيخ بقص الزائد من الصوف في الشنة بعد كويها، أنشغل أنا وراء الأسئلة في رأسي مرة أخرى، تمر هي من أمام المحل، أرى لمحةً من وشحاها الأبيض يجري خلفها يحاول أن يبقى على رأسها بينما تدفعه الريح للوراء، لا الريح رضت أن تتركه، ولا هو قرر الاستسلام، حاولت أن أناديها لكنني خفت أن أُزعج الشيخ الهامس، لوحت لها بيدي لعلها تلتفت، لكنها وكعادتها لا تراني، استسلمت وعدت داخلاً متسائلاً لماذا أراها في كل مكان؟ لقد قيل بأنها ماتت منذ أعوام، ومع ذلك، مازلت أراها تجوب كل الأمكان، أراها في كل شارعٍ هاديءٍ في لحظة صفاء، ورغم أنني سمعت عن موتها، إلا أنني مازلت أركض وراء كل طيفٍ لها كعطشانٍ تقطعت به السبل في الصحراء يركض نحو السراب.


لم أجد نفسي أسير يوماً داخل أسوار بنغازي، لم أعهد ببنغازي أن تكون مدينة مسورة ولو جزئياً، ولم أجد في بنغازي بقايا باب، اكتفيت فقط بوصف والدي عن السور مكان فم السور الفاصل بين اخريبيش والصابري وحديثه عن مغسلة الموتى وخروجهم من الباب نحو سيدي اعبيدة مشيعيين جنازة، لم يذكر بأن السور كان ليمنع أحداً من الدخول، ولا أن الأبواب الخمسة كانت تُغلق، وكأن هذه البقعة من الأرض كانت دوما تستقبل ايتام الأمال والأحلام، بنغازي، يا أول حبيباتي أو يا من تبقى منهن، صورتك ترفض مغادرة خيالي وتُصر على ملاحقتي كأنها أسراب النورس تلاحق سفن الصيد لا أدري لماذا، أحاول الهرب منك فأجدك تقفين في شارعٍ شعبي في مدينة أخرى تنظرين نحوي وتبتسمين بخبثك المعهود ثم ترحلين، أليس هذا غريباً؟ أعني أن تغيب ذكراك فيك وتحضر خارجك، أن لا أراك في شوارعك وأراك في شوارع الأخرين، لا أقف هنا للومك، ولا أحاول أن أعاتبك وأتهمك بأنك تغيرتي، نحن أيضاً تغيرنا، لم نعد نفس الناس، ربما نسيتينا ، لكننا كبرنا فيك، لست أنت من متتي مقتولة في الحرب، بل نحن، البناغزة هم من ماتوا في الحرب و ما نراه اليوم ليس الا أشباحاً قبيحة تمشي في الشوارع تنتظر دفنها، أشباحٌ لا تزرع ولا تُعمر، لا تكتب ولا تقرأ، خيالات أموات لا تعرف عن الحياة شيئاً، ينغازي حيةٌ في أحد أحيائها، لكن البنغازة موتى ينتظرون دورهم ليدخلوا جبانة الهواري.



رفيق غربتي، مؤنس وحشتي بين الناس، سألتني ذات يومٍ في مطار قرطاج عندما وقفت تودعني وأن انطلق عائداً لقبرص 

"مش جاي أنت؟"


اجبتك اصطنع عدم الفهم


"جاي وين؟"


"بنغازي"


"لا.."


أجبت بكلمة واحدة دون أي مببرات، ومرت بعد ذلك ثلاثة أعوامٍ كاملة تغيرت فيه بنغازي، وتغيرت فيها أنت، لكنك بقيت ذلك التيس العظيم الذي يطيب لصرصارٍ مثلي أن يرافقه، أقول لك بكل صراحة بأنني مللت الغربة وضقت بها ذرعاً، مللت إنتظار الربيع ليأتي بعد أن صارت أيامنا شتاءٌ بارد يتبعه صيفٌ خانق، لقد كنا دوماً كمحطة، نقف هناك يمر بنا الناس ويذهبون ونبقى نحن هناك، وقد مللت هذا أيضاً، مللت أن أكون كسبخة جليانة تحط بها الطيور المهاجرة ثم ترحل، لكن هل ترى السبخة تنزعج من ذلك؟ هل تراها تهتم اذا ما بقيت الطيور أو رحلت؟ هل ترى الربيع يشكي طول الشتاء؟ وهل تراني أتحدث عن ما بخاطري؟ 

55 views0 comments

Recent Posts

See All

وردة

Comments


bottom of page