باعةٌ ومشاة
منهم من يقضي حاجة
ومن يبحث عن رغيف
على الرصيف
رجالٌ ونساء
لا شيء هنا مبهج
لا شيء هنا لطيف
على الرصيف
يمتاز شهر فبراير في شمال أفريقيا بتقلب مزاجه فهو تارةً دافىء وتارةً شديد البرودة، من بين غيومه الحائرة التي ليست بغيوم صيفٍ ولا غيوم شتاء، خرجت أشعة الشمس تُلقي قليلاً من الدفء على المدينة وسكانها الباردة أرواحهم، تعلو الطيور المهاجرة القاصدة وجهتها شارعاً من شوارع المدينة تلتقي فيه مدارس ومصارف وبعض المباني الخدمية والتجارية و جمعٌ من المنازل، على رصيف الشارع، شرع محسن في ترتيب بضاعته أمام دُكانه الصغير، يلقي التحية على جاره قبل أن يعود لداخل الدكانة ليكمل توضيبها، محسن شابٌ في أواخر العشرين من عمره، وُلد ونشأ في ذات الحي الذي يسكنه الان، أكبر إخوته الثلاثة، شابين وفتاة،
كان محسن أول أفراد العائلة في ارتياد المدرسة، سبق في ذلك حتى والده الذي لم يسعفه الحظ في نيل تعليمٍ رسمي، فاكتفى فقط بتعلم الكتابة وفك الخط وأساسيات الحساب في الخلوة (مدرسة قراّنية) قبل أن يجبره والده -جد محسن- على الإلتحاق به في دُكانته، لذلك كان والد محسن حريصاً على تعليم ابنائه وإكمال دراستهم دون أي مُلهيات، دخل محسن المدرسة وآمال والديه كبيرة حوله، وقفت أمه تودع مبتسمة في أول يومٍ دراسي له، تطمح كما يطمح والده أن تودعه من ذات الباب بينما يتجه لعمله كمهندس أو كطبيب، لم يخيب محسن امال أحد، بل كان مثل ما توقع الكل أن يكون، تنتهي كل سنة دراسية ولا أحد ينظر ليعرف من صاحب الترتيب الأول على الصف، لأن ذلك معروف مسبقاً، محسن الأول ثم البقية، فرح والديه ببكرهم، شاركهم فرحتهم كل من حولهم من جيرانٍ واقرباء، أحب الكل محسن كونه مجتهداً في دراسته، حسن الخلق، ومحباً لمساعدة غيره، كأن الكل شعر بأن محسن ابنهم، ونال محسن هذه المحبة عن استحقاق، رغم صغر سنه آنذاك، لم يكن يتردد في مد المساعدة لغيره عند احتياجها، صار الجيران يطلبونه ليساعد أبنائهم في الدراسة، أحب الفيزياء و الرياضيات وكان بارعاً فيها حتى صار الكل يرونه مهندساً بما في ذلك جارهم (خليفة) الدكتور خليفة، أستاذ جامعي بكلية الهندسة، والذي صار يناديه مازحاً من حينٍ لأخر قائلاً (انا خليفة وانت خليفتي) كنايةً على أن الطفل سيكبر ليصبح أستاذاً جامعياً هو الأخر.
مرت الأيام و السنوات، كبر محسن وصار طالباً في المرحلة الأخيرة من الشهادة الثانوية، كل العائلات كانت تخشى على أبنائها من هذه المرحلة، كل الأبناء إلا واحد، لا خوف على محسن، "محسن قدها"، استيقظ محسن صباح أول يوم دراسي على صوت بكاء أمه و ولولتها، حاول استيعاب الأمر
هل هو حلم؟
هل اختلط الحلم بالواقع؟
ازدحم عقله بالأسئلة..
حاول استيعاب الامر
أصيب بحيرة
جلس على سريره لا يدري ما يفعل، يتجنب الخروج هرباً من الواقع، ولا هرب من الواقع، توفي والد محسن وترك أكبر أبنائه مسؤولاً من بعده، لم يتردد الابن في ترك الدراسة ليقف في بقالة والده، رفض كل محاولات الأهل إقناعه بأن يكمل دراسته و يؤجر الدكانة، رأيه كان دوماً بأن ثمن الإيجار لن يكفيهم قوت يومهم، رمي أحلامه كما رمى حقيبة كبته، شمر عن ساعديه، وفتح البقالة ليقف فيها معيلاً لأسرته، يعزي نفسه اليوم بالنظر لإخوته الثلاثة، أكبرهم مهندس، أوسطهم طبيب أسنان، و الصغيرة محامية رفقة زوجها، لم يندم على فعلته هذه أبداً بل كان دوما فخوراً سعيداً بهذا، يزيد سعادته تذكر ابتسامة والدته فرحاً بأشقائه.
من الرصيف، يحمل محسن أربعة صناديق مياه، يشق بها الطريق متجهاً نحو المصرف المقابل، أمام المصرف تجمع عددٌ كبيرٌ من الناس في انتظار مرتباتهم المتأخرة، يبدأ محسن في توزيع المياه على كبار السن والنساء لعلها تخفف عليهم شيِئاً من معانتهم، تتنوع كلمات الشكر من شخصٍ لأخر
"بارك الله فيك"
يقولها الشيخ الجالس بعد أن ناوله محسن قنينة ماء
" يسقيك من زمزم"
تدعو بها العجوز وهي تمسك القنينة من يده
" الله يرحم والديك وينجيك"
تدعو بها عجوزٌ أخرى
يرى محسن شاباً في مثل عمره ربما وقد جلس على طوبةٍ بجانب المصرف، تعلو وجه الشاب علامات الإحباط كما تعلو الشمس السماء في منتصف اليوم، ولا يدري محسن ما الذي ارهق الشاب، الشمس الساطعة، ام خيبة أمل، يتجه محسن نحو الشاب يناوله قارورة ماءٍ قائلاً:
"تفضل"
يظن الشاب أن محسن يبيع المياه، يسأله بعد أن أمسك بها:
"بكم؟"
يجيبه محسن مازحاً:
"كم أعطوك في المصرف اليوم؟"
يبتسم الشاب الأخر ويرد قائلاً:
" أعطوني ضغط وسكر"
يضحك محسن قائلاً:
"لا حاجة لي بهما إذن"
يضحك الشابان معاً قبل أن يشكر الشاب الأخر محسن قائلاً:
"الله يرحم والديك"
يجيبه محسن بينما كان ينصرف قائلاً
"والدينا ووالديك، وحد الله انت بس"
يمضي محسن ليكمل ما جاء لأجله بينما فتح الشاب الأخر قارورة الماء وشرب منها، نظر (عبد الرزاق) للشمس المنتصبة في السماء، إلى طابور المصرف الذي خرج منه قبل قليل بخُفي حنين، يصطف العشرات أمام شُباك المصرف طمعاً في بضعة دنانير تقيهم شر مد اليد و الحاجة إلى الغير، يعمل عبد الرزاق كمهندسٍ في شركةٍ ما، ينص العقد المُبرم بينه وبين الشركة على أن يتم دفع 1500 دينار شهرياً له نظير أتعابه وعمله، لكن هذا الرقم كان كمشاريع الإصلاح عندنا، مُجرد أحبارٍ على ورقٍ مُلقى في خزانة ما لا يُبصر النور أبداً، دأب عبد الرزاق على الوقوف أمام المصرف كل أسبوعٍ تقريباً منذ قرابة الأربعة أعوام بحثاً عن جزءٍ من راتبه الذي يتأخر نزوله من الشركة أحياناً، والذي لا يمكن سحبه لعدم توفر السيولة المالية في المصرف، و إذا ما أطالت أم عبد الرزاق الدعاء له في قيام الليلة وكانت ابواب السماء مفتوحة لهذه الدعوة، فإن عبد الرزاق يجد 400 دينارٍ فقط من كامل مرتبه، يريح عبد الرزاق ظهره إلى الخلف قليلاً بينما يُخرج علبة سجائره محلية الصنع، يرمي سيجارةً منها في فمه قبل أن يُشعلها ويسحب منها نفساً وكأنما يسحب نفسه الأخير بينما يحك رأسه، يعود بالذاكرة لبضعة سنواتٍ مضت، تخرج عبد الرزاق من كلية الهندسة وبدأ مباشرةً في البحث عن عمل، لحسن حظه، لم يطل بحثه كثيراً قبل أن يتعين في إحدى الشركات العامة، بعد شهرٍ بالتمام وحصوله على أول راتبٍ له، حضر له والده يعرض عليه الزواج من ابنة عمه "لكني مازلت في بداية حياتي ولا يمكنني تحمل مسؤولية عائلة الأن"
رد عبد الرزاق على والده حينها محاولاً الهرب من هذا العرض، أو تأجيله على أقل تقدير، لكن الزواج هنا كالموت، إذا طرق بابك فلا مفر منه، تمكن والد عبد الرزاق من اقناعه بالفكرة، أعد كل الإجابات و الحلول لحجج الإبن
"مازلت لا أملك بيتاً"
يرمي عبد الرزاق هذه الورقة طمعاً في مهرب
"تبني فوق بيتنا شقةً صغيرة وأعينك انا على بنائها"
يصد الأب محاولة ابنه
"مرتبي ما يزال قليلاً و أخشى أن أقصر معها"
ورقة أخرى يرميها الابن
" الحمد لله رزقنا وفير"
يردها الاب مجدداً
انتهى المطاف بعبد الرزاق 23 عاما متزوجاً بابنة عمهاً، سنواتٌ قليلة و انقلبت كل حياته رأساً على عقب، خسر الاب كل بضاعته في الحرب، خسارةٌ أطاحت بالاب و اثرت سلباً على صحته حتى ودع هذه الدنيا، اجتمع الأبناء لبيع بيت الأب وتوزيع الميراث بينهم، وبيع البيت بشقة عبد الرزاق، وجد عبد الرزاق نفسه يبحث عن شقةٍ أخرى يشتريها بحصته من ورثة أبيه، زاد الأمر سوءٌ الأزمة الإقتصادية التي تمرُ بها البلاد، تضخمٌ في كل شيء إلا مرتبه الذي ظل ينكمش حتى صار يكاد لا يكفي حاجيات أسرته المكونة من أربعة أشخاص، يدعو عبد الرزاق ربه في كل صباحٍ الا يصاب أحدٌ منهم بمرضٍ ما خشية الا يستطيع التكفل بمصاريف علاجه.
ينهض عبد الرزاق من مقعده بعد أن رمى سيجارته التي اسنتفذ أخر نفساً فيها، عبر الطريق نحو سيارته، يرن هاتفه بينما يعبر الطريق،
"الو"
يجيب
يأتي الصوت الأنثوي من الطرف الأخر سائلاً
"هل أخذت سيارتك من الورشة أم انها ما تزال هناك؟"
يرد هو قائلاً:
"لا أخذتها"
يعود الصوت سائلاً:
"والمصرف؟"
"لا سيولة لديهم"
بنبرة فيها اليأس والحنان معاً يقول الصوت:
"ربي كريم"
تنتهي المكالمة بين عبد الرزاق وزوجته قبل أن يصعد لسيارته المتهالكة،
نظرة أخيرة للمصرف وكأنه يرجو أن يجد أحداً من الموظفين يناديه ليستلم راتبه
يُشغل سيارته بعد نظرة الخيبة تلك وينطلق عائداً قاصداً منزله
صوت فرامل عالٍ
عبد الرزاق يجلس في سيارته مصعوقاً
أمام السيارة سيدة تبدو في العشرينات من عمرها تقف هي الأخرى مصعوقةً خائفة
ينزل عبد الرزاق من سيارته مسرعاً نحوها
"حمداً لله على سلامتك"
تتلعثم السيدة قليلاً قبل أن تستجمع قواها لترد قائلة
"الله يسلمك"
يبادر عبد الرزاق بالاعتذار لها قائلاً
"أرجو أن تسامحيني فلم أكن منتبهاً"
ترد السيدة قائلة
" ربي ستر الحمد لله"
يحاول عبد الرزاق سؤال السيدة اذا ماكانت تريد الذهاب للمستشفى أو ايصالها لمنزلها، تشكره السيدة بدورها قبل أن تبدأ في المضي مستكملةً طريقها، يناديها عبد الرزاق قبل أن يأخذ قارورة الماء من سيارته ويعطيها له
ترفض في البداية شاكرة
يلح عليها هو بدوره
تأخذها بعد الحاح ثم تمضي
تُكمل (فاطمة) طريقها نحو البيت ممسكةً بحقيبتها بعد ان وضعت بداخلها قارورة الماء، ما ان تصل للضفة الأخرى للطريق حتى تعود بذاكرتها لما حدث قبل قليل وكيف كان من الممكن ان تنتهي حياتها في لحظات في حادث سير، لم تكن قادرة على التجاوب مع قائد السيارة الذي لا تعرف اسمه، جسدياً كانت تقف أمام السيارة، ذهنياً لم تكن هناك، لم تستطع ان تخبر السائق بأنها هي الأخرى لم تكن منتبهةً للطريق، تخرج فاطمة من المدرسة كل يومٍ في نهاية الدوام عائدةً لمنزلها مشياً على الأقدام سواء كان الطقس حاراً جافاً أو دفيئاً ماطراً، تكون رحلة عودتها وذهابها من والى المدرسة مساحةً لها تصفي فيها ذهنها وأفكارها، تخرج من باب المدرسة فتقودها أقدامها نحو المنزل، حفظت أقدامها طريق المنزل، تخرج من باب المدرسة، تقطع الطريق، تجتاز المصرف، تنعرج لليسار، تتجنب المرور من أمام دكان محسن بالذهاب للجهة المقابلة، ثم تعود لذات الجهة لتدخل أحد الأزقة حيث منزلها، لا يعكر رحلتها اليومية هذه شيء، لا ازدحام الطريق ولا ازدحام المصرف، تبستم عفوياً عند ملاقتها أي من الجيران، ترد عليهم تلقائياً عندما يسألها أحدهم عن حالها او حال والدها.
تُخرج ورقةً من حقيبتها كُتب فيها عددٌ من حاجيات المنزل، تقف على محلٍ يقابلها لتقضي حاجياتها قبل أن تستأنف رحلة عودتها الى المنزل، درست فاطمة في ذات المدرسة التي تعمل بها الأن، في طفولتها كانت من الطلبة المتفوقين الذين احبهم المدرسين والجيران سويةً، شاركهم في حبهم هذا محسن الذي نشأت بينه وبينها قصة حُبٍ طفولية كبرت مع مرور السنوات حتى صار الجميع يعرفها ويمازحون والديهما عن موعد زواجهما، لم يتردد محسن يوماً في طرقِ باب بيتها طالباً يدها بشكلٍ رسمي، كان كل شيءٍ يسير على ما يرام، حتى قرر والدها ذات يومٍ أن ينهي كل شيء ويوافق على زواج ابنته من أحد جيرانهم الذي صار ثرياً فجأة، رأى والدها حينها أن حياة ابنته ستكون أفضل معه في ظل الأزمة المالية التي يمر بها الجميع، حاولت فاطمة ان تثني والدها عن قراره هذا بشتى الطرق
" الحب لا يضع اكلاً على طاولتك"
-"لكنه حشاش"
-"بكرة يتوب عليه ربي"
لم يهتم والدها بدموعها ورفضها المتكرر لهذا الزواج، رحلت فاطمة عن الحي بعد زواجها ورحل معها جزءٌ من محسن الذي أحس ان الحي صار أكثر ضيقاً، ظن والدها أنه هكذا وفر حياةً كريمةً لابنته، لم تغير رأيه الكدمات التي كانت على وجه ابنته في كل زيارةٍ لها لبيت والدها، لم يفكر يوماً في قراره هذا حتى انتهى كل شيءٍ ذات صباحٍ عندما وجدها عنده في البيت رفقة أطفالها الثلاثة، قرر زوجها ذات يومٍ أن يطلقها، زاد الام جراحها ردة فعل والدها ذلك اليوم
"لا بد أنك أخطأتِ في حقه"
رغم ان هذا حدث في حر صيف يوليو الحارق، الا ان فاطمة احست ببردٍ قارصٍ يفتك بروحها، ظل ذلك البرد داخلها رغم تبدل المواسم، ظلت روحها طوال المواسم ممطرةً باردة، عندما تخرج البنت في مثل هذه المجتمعات لبيت زوجها فإنها تخرج كعبيءٍ أُزيح من صدر والدها، وعندما تعود لبيت والدها مطلقة فإن حِملها يكون أثقل، ما تزال كلمات والدة محسن -عندما طلب منها أن تخطب فاطمة له- تُدمي قلبها "مالذي ينقص ابني حتى أزوجه بمطلقة"
لم تتألم فاطمة من ضربات زوجها بقدر تألمها من كلماتِ من حولها بعد الطلاق..
يقطع حبل أفكار فاطمة طفلٌ صغيرٌ يجري نحوها بينما تهتز حقيبته من خلفه بعد كل خطوة، يمد الطفل يده لها مبتسماً قائلاً:
"ابلة فاطمة، هلا عبرتي بي الطريق؟"
تبتسم فاطمة عفوياً عند رؤيته، تختلف تلك الابتسامة عن كل الابتسامات التلقائية التي تلقيها لجيرانها عند المرور، كانت تلك الابتسامة خارجةً من روحها، تُمسك فاطمة بيد (نبيل) الطفل الصغير الذي يدرس في ذات المدرس ويسكن في أحد البيوت القريبة منها، يبلغ نبيل من العمر عشرة سنوات، لا شيء يثقل كاهله في الحياة سوى تلك الحقيبة المحملة بالكتب على ظهره، يعبران معاً الطريق ليصلا للرصيف المقابل، يمشيان معاً جنباً إلى جنب، تفتح فاطمة حقيبتها لتخرج منها قارورة الماء التي ناولها اياها السائق الذي كاد ان يصدمها، تشرب منها رشفة قبل أن تعيدها لحقيبتها بينما تمر من أمام محسن الذي كان منشغلاً بانزال بضاعة لمحله، في حين ظل نبيل يمشي دون ان يدري عما يدور حوله، يمشي مبتسماً سعيداً على الرصيف.
على الرصيف
ألف حياة وحياة
تمر بجانب بعضها
لا تشعر واحدة بالأخرى
لا تشعر واحدة بالمضيف
فكلهم هنا
برجالهم ونسائهم
أطفالهم وشيوخهم
كلهم هنا ضيفٌ
والمضيف هو الرصيف
على الرصيف
يناير 2022
Comments