تنزل الشمس من السماء غارقةً في البحر، تبدو من بعيد كبرتقالةٍ ضخمة جاعلةًً من السماء شديدة الاحمرار بينما يجلس الناس هناك… من بعيد٬ يرونها تغرب ويستمرون في حديثهم دون أن يُفكر أحدهم أن يودعها أو يقول لها شيئاً٬ وكأنهم ضمنوا بأنها ستعود دوماً وبأنها باقيةٌ هناك للأبد، وما أسوء أن يظن الإنسان ذلك، ما أسوء أن يظن الإنسان بأن شيئاً ما سيبقى هناك دوماً٬ ربما لو عرف أحدهم بأن هذه الشمس قد لا تشرق غداً لوقف يراقب جمالها وقت الغروب لمرةٍ أخيرة، ربما لتوقفوا عن الحديث وصمتوا واكتفوا بالصمت بينما تغرب هي، لكنهم لا يبالون٬ لا يكترثون لها ولا تكترث أنت لهم، فلست هذا ما جئتُ لأريك، انظر نحو الساحة هناك٬ هل ترى طاولة الورود تلك في الضلع الأيسر للساحة؟ خلف الطاولة يجلس طفل٬ يفترش الرصيف صامتاً طول اليوم يبيع الورد دون أن ينادي على بضاعته، فالورد لا يُنادَى عليه كي يُباع، بل مشتري الورد هو من ينادي على نفسه، الورد ليس بضاعة حتى يُروج لها، الورد رمز، كلماتٌ تقال دون أن تُنطق، مشاعر تُنقل من شخصٍ لأخر، والمشاعر لا تُشترى… أو هكذا يقول البعض.
هل رأيت الطفل؟ نعم هو ذلك الطفل أسمر البشرة، أكرد الشعر، وأسنان تعكس أضواء الميدان لشدة بياضها، هو الطفل ذو الملابس البالية التي رشها الزمن بعطرها فصارت رائحته تفوح منه، اذا استشنقتها جيداً ستجد رائحة الرطوبة والجفاف معاً، سيصل لأنفك أيضاً القليل من الغبار و الحزن، لم يكن الطفل هنا منذ زمنٍ بعيد، لقد جاء حديثاً للميدان، منذ عامٍ تقريباً، ومنذ عامٍ صار يفترش الأرض في كل مساءٍ قبل الغروب بقليل ويظل في مكانه هذا حتى يُصبح الميدان خالياً من البشر… الا من بضعة سكارى خرجواً يُسلون سكرتهم هذه، لا تستغرب قدماه الحافيتين، لقد فقد حذائه صباح اليوم بينما كان يجري هرباً من أحدهم بينما كا… أنا لم أقل لك ماذا يبيع في النهار؟
بعد أن يعود هذا الطفل لمنزلهم القريب من هنا في منتصف الليل، ينام لبضعة ساعات قبل أن يستيقظ باكراً، لا يملك رفاهية أن يُبدل ثيابه قبل الخروج فليس له في هذه الأيام الا ما يرتديه من ملابس بعد أن بللت أمطار الليلة الماضية طقمه الأخر، يغسل وجهه بقليل من المياه، ثم ينطلق ماشياً حتى يصل لمكان عمله، ليس بأفخم الأمكان، ولا أنسبها لطفلٍ لم ينمو الزغب في وجهه بعد، يقف في أحد اكثر الشوارع ازدحاماً يحمل المياه المعدنية يبيعها للمارة، لا يدري هذا الطفل عن ما حدث، كل ما يذكره أنه كان في ذات يومٍ يكره الوقوف في طابور المدرسة لبضعة دقائق، ها هو ذا يقف اليوم هنا بالساعات، يجلس أحياناً للحظات قليلة قبل أن ينهض خوفاً من أن يباغته أحدهم ولا يستطيع أن يجري هرباً، لم يخبره أحدٌ من أن يستمتع بطابور المدرسة قبل أن يُحرم منه، لم يخبره أحدهم بأن أيامه تلك قد تنقضي، ومن الذي سيخبر طفلاً بذلك؟
يمد قنينة المياه على استحياءٍ لأحد المارة لعله يشتريه، لكنه يمضي ولا يبالي، يعيد ذراعه إليه قبل أن يجد ماراً أخر فيعيد الكرة، ويمضي في المد والإعادة حتى يقف أحد العطشانين الذين أرهقتهم الطوابير فيشتري منه، يساومه في السعر قليلاً فيحاول أن يأخذ قنينتين بسعر واحدة، لكن الفتى لا يُجيب، يهز رأسه معترضاً فقط، فُيعطيه الرجل الدينار ويرحل، يضع الطفل الدينار الجديد بجانب إخوته القليلين، ثم يعود لما كان يفعل، يناظر شمس الظهر العالية، لم تكن الشمس بهذه القسوة في بلده رغم أنها كانت أكثر حراً، لكنها كانت ألطف قليلاً، أو هكذا أحس، ولم يكن الناس بهذا الجفاف أيضاً هناك، كان يراهم يبتسمون أكثر، إلا حسن جارهم، يقول عنه بأنه شيخٌ كبيرٌ في العمر، لا يدري هو كم عمره بالضبط، يكتفي بالقول
"من زمان عايش"
يصف بهذه الجملة بأنه يعيش منذ سنوات، يقول أيضاً بأنه كان دوماً عابساً نادر الابتسام وقليل الكلام، يخشاه جميع من في الحي، يتحاشونه هرباً من لسانه السليط.
يقف قليلاً مستنداً إلى عامودٍ يقف هناك منذ أيام الطليان، يراقب فتيةً رموا حقابئهم المدرسية وانطلقوا يلعبون في الحديقة القريبة، يقف يراقبهم من بعيد سارحاً في خيالها مستذكراً لعبه وهو اقرانه لم تكن لديهم حديقةٌ هناك، كان يلعبون في ازقة الحي الضيقة بين المباني المتقاربة، الارض باتساعها ساحةُ لعبٍ بالنسبة لهم تمتد حدوها إلى أقصى نقطةٍ تقدر اقدامهم على أن تصلها، يود لو أن يستطيع الانضمام لهؤلاء الفتية في حديقتهم، ولكن ماذا يصنع بما معه من قوارير المياه، ينظر نحوه بشيء من الحزن، هو الحزن الذي تراه في عينيه أغلب وقته، يكتفي بتذكر أيام لعبه يذكر بأنه في ذات مرة وبينما كان حسن هذا يجلس أمام بيتهم، وبينما كان هو واقرانه يلعبون في الشارع بشيء يُشبه الكرة، ركل الكرة فانطلقت حتى ضربت وجه حسن، يحلف ويقسم بالله بأنها لم يكن يقصد هذا، ولكن حسن لم يُصدق كلمات الطفل وقسمه فوقف يحاول أن يجري ورائه ذاكراً أم الطفل ووالده، لم يفهم الطفل ما قاله حسن حينها، عرف فقط من بين كل الكلمات كلمتان فقط "أمك وأبوك.
يبتسم الطفل لذِكر حسن، تنقطع الابتسامة وتتبدل بنظرة فزع، قبل أن يديد ظهره وينطلق جارياً، يترك خلفه كل المياه، لا تكاد أقدامه تلمس الأرض لسرعتها، تتسع حدقات عينيه حتى صارت باتساع الكون، يتذكر جريه هرباً من حسن، يود لو كان حسن هو الذي يهرب منه الان، يعرف بأن حسن سينال منه التعب ويتوقف ليكتفي بسبه، لكنه لا يعلم متى يتوقف هذا الرجل عن الجري، تنزل من عينيه الدموع وترميها الرياح خلفه
يجري دون هدف
يتبع الطريق فقط ولا يعرف أين نهايتها، يجري معها فقط، يُبقي نظره نحو الأمام، كما فعل في ذلك اليوم، كان ذلك قبل عام، هاجم المسلحون بيتهم، لم يعرف مالذي يدور، يسمع من بعيد اصواتاً تشبه الرعد، لكنها أكثر وحشية، كان يلعب كعادته في كل يوم، لكن شيئاً ما هز الشارع وحرك كل التراب فيه، لم يعد يري أحداً من حوله، يسمع صراخاً قادماً من بين التراب، يومها، أدار ظهره وانطلق يجري كما يفعل الأن، يجري من شيءٍ لا يعرفه، ولا يعرف إلى أين، لا ينظر خلفه، يستمر في الجري فقط حتى وجد نفسه هنا، يجري مرة أخرى دون أن يعرف لماذا.
يرميه التعب على الأرض، ينظر حوله لا يجد أحداً خلفه، يحاول أن يلتقط أنفاسه، يشعر بحرارةٍ في قدميه فينظر نحوهما ليجد بأنه فقد حذائه بينما كان يجري، يرمي برأسه إلى الخلف ناظراً للسماء، يتذكر أيامه تلك بحزن، لم يخبره أحد أن يستمتع بها قبل أن تمضي، لم يخبره أحد بأن يحتمل طابور المدرسة ذاك، لم قل له أحد بأن يلعب حتى يشبع من اللعب، وبأن يجري لعباً ومرحاً قدر ما استطاع قبل أن يجري هرباً وخوفاً، ربما لو قال له أحدهم ذلك لوقف في الطابور فرحاً، ولجرى في كل أنحاء بلده، وربما لاقترب من حسن بودٍ واحتمل وجهه العبوس وسبه، ولكن… من الذي سيخبر طفلاً بكل هذا؟، من سيخبر طفلاً لا يعرف شيئاً خارج حدود شارعه بأن حرباً ستندلع وبأن كل شيءٍ اعتاد عليه سيختفي ويمضي؟
قل لي الأن، ماذا ينتظر العالم من طفلٍ مرَّ بكل هذا؟، ماذا ينتظر العالم من طفلٍ فقد حذائه؟ ماذا يُمكن لطفلٍ يجلس حافياً على الرصيف بملابس رثة يبيع الورود؟
يجلس الطفل هناك كل مساء، في ذات المكان أمامه الورود يبيعها دون أن ينادي عليها، وخلفه وردةٌ قُطِفت، ثم هُجِرت ولم تجد من يطلبه فذبلت وجفت، ثم ماتت، لكن…دعك منها فهذه قصةٌ أخرى حدثت قبل سنواتٍ في جزيرةٍ صغيرة في ركن المتوسط.
Comments