منذ أن وُلدت - أو بالأحرى منذ أن بدأت ذاكرتي بالتشكل- كانت جملة الأمهات الشهيرة التي يرمينهل في نهاية نقاشٍ حول النظافة من أكثر الجمل التي تثير تسائلتي واستفزازي، تقول أمي بعد أن تأمرني بتنظيف الغرفة
"ما تعرفش من اللي يجينا"
اسأل نفسي وأنا الطفل الصغير -او الكبير- أي ضيفٍ سيأتي سيحشر نفسه في غرفتي و يفتح الدولاب بحثاً عن أي فوضى، أساساً لم يشهد أي بيتٍ من البيوت التي عشنا فيها سواء شقة الكيش أو بيت بوهديمة ضيوفاً كُثر، هم ذات الأشخاص الذين يأتون من عيدٍ لأخر، يجلسون في ذات المكان، ويغادرون، لم يصعد أياً منهم إلى غرفتي، ولم يفتح أيٌ منهم الدولاب أصلاً٬ ولكن أمي٬ ظلت تعيد ذات الجملة في كل مرة دون أن تجيب على سؤالي، حتى، وفي ذات يومٍ من أيام يناير 2015 تفاجئنا بوفاة جدي، يومها فقط، عرفت مالذي تخشاه أمي او الذي تقصده بتلك الجملة، فجأة، وبدون أي مقدمات، امتلىء بيت جدي بالناس، عجت الغرف بنساء أعرفهن ولا أعرفهن، حينها فقط عرفت من الذي قد يأتينا.
تنطلق السيارة السوداء بنا خارجةً من ما تبقى من اخريبيش، مارةً بنا بما تبقى من سور المدينة المنهار، نترك البحر ورائنا ونترك نوافذ السيارة مفتوحة لتسمح بقليلٍ من نسمات البحر من الدخول، البحر الذي يتفادى والدي رؤيته منذ عام تقريباً، في الطريق -وكعادتي- أحاول أن اسحب القصص من والدي بطرحي أسئلةً ذات نهاية مفتوحة حتى ينطلق ويُسهب في الحديث، يحكي لي والدي عن جدي الذي تقول ورقة العائلة بأنه وُلد قبلي بمئة عام كاملة، وتوفي ذات نهارٍ في منتصف السيتنات متأثراً بمرضٍ مجهولٍ أصاب جهازه التنفسي، يقول والدي بأنه غالب الظن سرطان الرئة، أكتشف في ذلك اليوم بأن جدي كان مُدخناً شرهاً، فاكتشف انني أشبه جدي في عادةٍ أخرى، وربما أشبهه في المصير، ينقصني فقط العكاز الذي يسنده في عرجته، وشاربه الحاد، وربما شيئاً من حكمته.
ينتقل والدي للحديث بعدها عن أمه، جازية بنت عمران، جدتي التي توفيت قبل أن ترى أياً من أحفادها، وقبل أن يتزوج ابنائها أصلاً، يتحدث والدي عن أنها كانت امرأة طيبة الطبع رغم قسوتها أحياناً، يشهد على ذلك ابن عمه بينما نحن في طريقٍ أخر، يُضيف أيضاً بأنها كانت قريبةً من أمه هو، تزوجتا في ذات اليوم تقريباً، عاشتا معاً في ذات المنزل، ظلت المودة بينهما حتى عندما خرجت جدتي لبيت شقيقها، وعندما اشتد المرض بجازية ودخلت للمسشتفى، اختارت سرايا سلفتها مرافقةً لها في المستشفى فظلتا معاً حتى عندما ماتت جازية، ولا أنُكر انني في مرحلةٍ ما لم أكن أُميز بينهما، يريني والدي صورة جدتي للمرة الأولى فأجيب قائلاً جدتي سرايا، رحم الله الاثنتان.

في منتصف حديث والدي اسأله مُقاطعاً عن سبب عيشه في بيت خاله، يجيب قائلاً بأن جدته قد مرضت وصارت مُقعدة تحتاج من يرعاها، فانتقلت جازية لبيت شقيقها حتى تهتم بأمها، وانتقل هو للعيش معهم قبل أن يلحقهم عمي ثم جدي من بعده، لا يحكي والدي الكثير عن جدته، يذكر فقط أنها كانت مُقعدةً غالب الوقت، لا تتحرك ولا تتحدث، تقوم جدتي بتنظيفها وتغذيتها و ما إلى ذلك من اهتمام.
يُكمل الحديث عن طيبة جدتي وأنه لا يذكر بأنها ضربته أو شقيقه في يوم، لكنها كانت في ذات الوقت قاسيةً في بعض الأشياء، تمنعهم من الخروج بعد غروب الشمس، تسمح لهم بالخروج فقط لشارع بن عمران ولا شارع أخر
"تبوا تلعبوا العبوا عند أسيادكم"
تقول لهم عندما تسمح لهما بالخروج للعب بعد أن حددت الوجهة المسموحة.
لهذا السبب، لم يكن لوالدي أي ذكرياتٍ في طفولته سوى في المدرسة، في شارع بن عمران، أو في البحر عندما يأخذه أحد ابناء عمومته الأكبر منه سناً، لكنه يعود أيضاً ويقول بأنها كانت طيبةً هادئة، ربما تشهد على ذلك أيضاً الصورة الوحيدة التي رأيتها لجدتي، عينان بريئتان وابتسامةٌ مطمئنة ودافئة، أو ربما أكون أتخيل ذلك فقط كونها جدتي، وكوني أعرف ذكراها فقط، أعرف من الذي جاء من الرواي الجالس بجانبي في السيارة السوداء بأنها قد خرجت للحج بعد وفاة جدي، يروي والدي بأنه بعد أن توفي جدي، اجتمع عددٌ من الرجال يُصَّفُون حسابته، خرج أحدهم يحمل مبلغاً من الجنيهات يعطيها له ويأمره أن يُعطيها لأمه.
تلك العيون البريئة الهادئة، وقفت ذات يوم وقالت للموت انتظر، يحكي والدي بأنه كان قد عاد من المدرسة كعادته، جلس يذاكر دروسه كعادته، بينما كانت جدته -كعادتها- مُمدة على سريرها، ساكنةً كعادتها، يحل والدي واجبته عندما تدخل أمه تحدث أمها لا تستجيب
تهزها
فلا تستجيب
تناديها مرة أخرى
لا تستجيب أيضاً
تنظر لوالدي -وأتخيل أنا بأن في عينيها علامات سؤال- فيقول لها بأنها كانت هكذا لفترة، وبأنها لم تتحرك أبداً منذ جلوسه، تلمس جدتي وجه أمها فتجده بارداً ربما، تنظر نحو والدي وتخبره بصوتٍ أسمعه يهمس:
"عدي كلم بوك وخالك"
لا ينادي شخصاً أخر، يخرج والدي مُسرعاً، أساله عند ردة فعلها قبل الخروج فقال بأنها نهضت تُرتب البيت، يعود هو فيجدها قد غسلت الأواني، ورتبت الغرف، أزالت بعض الأشياء من الطريق، ربما مسحت قليلاً من غبار البيت، جعلت البيت نظيفاً ومُرتباً قبل أن يأتي زوجها وشقيقها وتُبلغهما بالحدث، ثم يقول والدي بأنها:
"طلقت العيطة"
تقف لتُطلق صرخةً يتجاوز صداها جُدران البيت ويخرج عابراً الشارع، تتبع الصرخة الأولى صرخاتٌ أخرى، في عُرف الناس، تُتعبر هذا الصرخات هي الإعلان بمصابٍ جلل أصاب البيت، هي نداءٌ للجيران حتى يأتوا لتقديم العزاء والمساعدة، هي فتح الباب و استقبالٌ للموت وتسليمٌ له… هي صرخة الانهزام.
أستغرب قليلاً من ترتيب الأحداث فأسأل والدي مرةً أخرى
"مسكت العيطة على أمها لعند ما نظفت الحوش؟"
يؤكد لي والدي ما حدث ويعيد ما قاله، لم تبكِ، لم تصرخ، ترى أمها وقد فارقت الحياة أمامها، ركنت كل هذا جانباً لوهلةٍ وشرعت في ترتيب البيت، يبرر والدي بأن الصراخ سيجعل الجيران يأتون، وأنها لم تُرد أن يدخل عليها أحد فيجد بيتها غير نظيف، أرى أنا جدتي وقد وقفت في ذلك اليوم برداها الوردي ربما، تنظر نحو الموت، تنظر في وجهه القبيح واقفةً شامخة، ترى ظُلمة الموت في عيني أعز الناس عليها، تراه في عيني أمها، لكنها لا تُسلم له، تقول له انتظر، هناك ما هو أهم منك، تقف جازية وتترك الموت جانباً لتنشغل بشيءٍ أخر، ثم تعود بأن انتهت لتقول له الأن دورك وكأنه أحدُ أبنائها، ربما كانت جدتي طيبةً فعلا، ربما كانت عينيها الهادئة مِرآةً لطبعها، ولكنها ستظل في بالي جازية التي قالت للموت انتظر.
Comments