top of page

غربة الأفكار

ahmedobenomran

المشهد الأول: ثقبٌ أسودٌ على ناصية الطريق في أحد احياء المدينة بوابته معدنية يجلس أمامها منشر غسيل بمناشف ملونة، خلف الباب يسقط الزمان والمكان، الساعة هناك تعادل دقيقة في توقيت الأرض، قديماً، في زمنٍ غير بعيد، كانت عملية حجز دورك في الحلاق تتطلب فقط ذهابك لهناك وتجلس منتظراً دورك، حتى اتى مجهول قرر أن يتصل بالحلاق ليحجز دوره فصار هذا هو العرف، ولأنني شخصٌ عشوائي لا يُخطط مسبقاً للحلاقة فلم التزم بهذا العرف، وصرت العن من ابتدعه في كل مرة أجلس لعام منظراً دوري على كرسي الحلاق.

يقول علماء التطور والأحياء بأن غريزة البقاء عندنا تجبرنا على التأقلم مع التغييرات في البيئة المحيطة بنا، ومصير كل ما ليس لنا حاجة به هو الزوال، لذلك، ولما صار الزبائن يتصلون مسبقاً ويأتون على دورهم بالضبط، لم يعد هناك حاجة للانتظار في الحلاق، فتغيرت كراسي الانتظار فيه، قديماً، كانت الطاولة الموضوعة في محل الحلاقة تعج بالمجلات المتنوعة، يقضي عجوزٌ جاء ليهذب شنبه وقت الانتظار في حل الكلمات المتقاطعة، يشغل طفلٌ جاء برفقة والده نفسه بالنظر لصور المجلات والممثلات فيها، اليوم يقضي ذات الطفل وقته في اللعب بهاتف والده في حين ييغيب العجوز عن المكان.


صالون الحلاقة -وان تغير- لكنه يظل مكاناً لأحاديث متنوعة ومتفرقة، يناقش الحلاق زبونه بينما يفرش وجهه بمعجون الحلاقة أخر مستجدات حرب روسيا واوكرانيا وكيف ان جاره الحلاق الذي هاجر لأوكرانيا قد وجد نفسه يهرب من الحرب مرة أخرى


"قتله لنقنك فقري يا احميدة، نزحت في بنغازي ونزحت في اوكرانيا"


يقول الحلاق قبل ان يضحك الاثنان، بجانبي طفلٌ يجلس في صمت واستحياء منتظراً عودة والده الذي خرج يشتري حوائج البيت قبل أن تُغلق الدكاكين وقت الافطار، لم يغفل الأب عن ذكر اهمية ان يعود بهذه الأغراض والا اضطر لأن يبحث عن مكانٍ يُفطر فيه بينما كان يغلق باب الحلاق خارجاً، يقترب طفلٌ اخر منه فيسأله:


-"صايم ولا فاطر؟"


يحني الطفل الجالس بجانبي رأسه مستحياً من الاجابة بينما يجيب هامساً: "فاطر"


لا بد ان الطفل لا يعرف شيئاً عن ضغوطات المجتمع، هو اصغر من ان يعي بهذه الأمور، لكنه احس بها، واحسست انا بذكرى ذات يومٍ في الصف الثالث الابتدائي عندما اقترب مني محمد رافع الواقف أمامي في الطابور ليسألني:


"صايم؟"


لم اكن اعرف مفهوم الصيام حينها، لم يخبرني أحدٌ بأهميته، لا أريد القول بأن ذلك العام كان هو أول عامٍ اعرف فيه شهر رمضان اصلا وانني لا اذكر شيئاً عن الشهر قبل ذلك، لم يُبلغني أحدٌ بضرورة ان اصوم الشهر، ولم أكن اعرف اذا ما كان يجب على الأطفال ان يصوموا، لكن محمد يومها كان صائماً، وهرباً من الإحراج م قلت لمحمد بأني صائم، رأيت نفسي في هذا الطفل الجالس بجانبي، ورأيت محمد في الطفل الذي سأله، شعرت بشيءٍ من الاسف نحو الطفل الذي شعر بالخجل من عدم صيامه، شعرت بقليلٍ من الفرح لكونه اجاب صادقاً ولم يكذب ليتجنب الحرج كما فعلت انا قبل سنوات، غاب الطفل الاخر لبرهة ثم عاد حاملاً قطعة شوكلاطة وعلبة عصير يعطيهما له، ينظر الحلاق نحو ابنه الذي قرر مشاركة الحلوى مع طفلٍ اخر بابتسامة فرح تخرج على استحياء منه، يجلس الطفلان يتحدثان معاً.

قطعاً يولد الاطفال ويعيشون ببراءة لا يعرفها عالم الكبار، يجلس هذان الاثنان مثلاً يتحدثان، لا مصلحة لأيٍ منهما عند الاخر، فقط يُظهران ما لديهما من نوايا، ترى متى يتلوث الاطفال بأفكار الكبار؟ متى يتعلمون اخفاء المشاعر واظهارها وتزييفها؟ الاف الاسئلة كانت تجري في رأسي في مظاهرةٍ تطالب بالاجابات، قائد المظاهرة كان السؤال المهم، ترى هل كان محمد سيعطيني العصير لو قلت له بأنني "فاطر" قبل سنوات؟



المشهد الثاني:


ايقاعٌ ناشز يتردد صداه في السماء المظلمة ليلاً، الليلة الوحيدة التي كف فيها كلب جارنا عن العواء، لم يعوي حتى عندما ارتفع صوت مؤذن الفجر كما كان يفعل دوماًَ، لا أحد يعرف ماذا يدور بالضبط، لم تتوقف اصوات القذائف والانفجارات طيلة ليلة البارحة، الاتصالات مقطوعة لا طريقة لمعرفة الوضع بالخارج، لا طريقة لي للاتصال بالعمل حتى اعتذر عن القدوم، لا اجد مهرباً من الخروج، أجهز نفسي واخرج.


في الشارع الخلفي، وقف جمعٌ من الجيران ينظرون يميناً نحو شارع البريد، عرفت ان اصوات الحرب اتية من هناك فاتجهت يساراً ابحث عن مخرجٍ اخر، تبدو الحياة طبيعية اكثر كلما ابتعدت عن المكان، اخرج من شارعٍ فرعي على طريق جامعة العرب الطبية، لا شيء طبيعي هنا، عشرات السيارات المحملة بأفراد مسلحين من جهاز الشرطة تمر على يساري، تقف بضعة سيارات عسكرية تغلق الجامعة والمحلات القريبة من هنا


"مالذي يحدث؟"


لا اعرف، ولم يوقفني احدٌ ليسألني أو يجيبني حتى، كل ما اعرفه بأن الجامعة مغلقة، كذلك الطريق السريع، أما ما بعد السريع كله كان عادياً، وصلت لوجهتي بعد ان عادت الشبكة واتصلت بأهلي لاخبرهم بعدم الخروج فالوضع غريب، اكتشف لاحقاً بأن اصوات الاشتباكات التي ارتفعت منذ ساعات فجر السبت الأولي كانت ناتجة من مداهمة اوكار الممنوعات في بوهديمة وانني بخروجي هذا كنت كمن خرج من جبهة حرب، وان ما حدث جعلني -كعادتي- اعود بالذكريات ليومٍ صيفي في عام 2015. منذ بداية العام كنت قد انتقلت للعيش في بيت جدي بحي الفويهات، فالحركة هناك اسهل بكثير من حيينا، في رمضان فقط عدت لبيتنا، أُفطر هناك، أدخن سبسي الفطور ثم اخرج لأعود في اليوم التالي، في ذلك اليوم -والذي سأقول بأنه كان السبت لأسباب ادبية- في ذلك السبت مستلقياً في غرفتي مُخدراً بفعل جرعة االنيكوتين التي انطلقت تجري في كل جسدي، صوتٌ غير مألوف جاء من الخارج ثم اختفى …..انفجار


صوت رماد


بكاء طفلة فقدت والدها


انهيار احلام


ونحيب امرأة


هذا كان صوت الانفجار لمن لم يسمعه، هو صوت الرعب بعينه، لم تمر لحظات حتى رن هاتفي:


"الو"


"سمعتها اللي توا؟"


"اها شنو؟"


"قالو قذيفة طاحت عالكوبري"


"لا ياراجل، في حد انصاب؟"


"قالوا في واحد مات."


"لا اله الا الله"


"شنو تطلع؟"


"هيا نلبس وجايك"


انتهت المكالمة


كان هذا انس، رفيق الحرب والسلام، دقائق حتى وقفت امام بيتهم ثم انطلقنا معاً نحو شارع البريد حيث كان المشهد سيريالياً.


الشارع مزدحم، ناسٌ يجرون يميناً ويساراً، سيارة اسعافٍ تمر مسرعة تجعل الشارع ازرق واحمر للحظات، بقايا سيارة نقل تحمل على ظهرها دوشكا كُتب على بابها سرية الموت يقودها بقايا انسان تنطلق امامنا بسرعة الضوء حتى لا نكاد نراها، وفي كل هذا الهلع، اثنان يقفان على ناصية الطريق يدخنان ويسأل احدهما الاخر باستغراب "غريبة مافيش تاكسي؟"


يقف لنا رجلٌ يبدو في الاربعين من عمره، يقول له انس الوجهة، يجيب السائق بأن الطريق مغلق امامنا، لكنه يخبرنا بأن نركب، ثم ينطلق داخلاً في ازقة بوهديمة يتفادى هضبة من التراب تُغلق شارعاً امامنا، يمشي بالسيارة فوق الرصيف، يسب شخصاً كاد ان يدهسه، ثم نصل للمقهى، ينظر كل من يعرفنا في المقهى نحونا باستغراب، الكل يعرف بأن بوهديمة مغلقة، وان المنطقة منذ ساعةٍ او اقل تعرضت للقصف، فماذا جاء بهذين الأحمقين إلى هنا؟


لا ادري حقاً عن سبب خروجنا تلك الليلة، ربما لأننا لم نعتد على البقاء في البيت، ربما لأننا لم نرد أن تُفسد علينا قذيفةٌ ما يومنا، ربما كنا نحاول أن ندافع قليلاً عن مدنيتنا وسط الحرب، ربما خرجنا بحثاً عن الموت نفسه، لكننا خرجنا على كل حال، ولهذا في كل مرةٍ يسألني عن خروجي في هذا السبت عام 2023، ابتسم وأجيب "تعرف بن غزي؟"






المشهد الثالث:


الجنازة التي مرت أمامي للتو عند مفترق مديرية الأمن جعلتني في صمت، ربما هي المسافة الأطول التي سيقطعها المشيعون في حياتهم، ربما تكون الأطول للميت أيضاً، أذكر جلوسي في المقعد الخلفي بينما ينطلق خالي مسرعاً نحو المستشفى وراس جدي ـ الباردة- تستند علي، هي اطول خمس دقائق عشتها حتى تلك اللحظة، هل نظرت للموت؟ أنا اتكأ الموت بين يدي، وكم هو مرعب، ساكنٌ هادىءٌ لا فرق بينه وبين النوم الا انه اطول، واشد برودة.



المشهد الرابع:


تقول الأهزوجة

دج دج دج

خالي عدا للحج

جاب شوية لوبان

وزعنا عالجيران

عدينا للعزوز

ضربتنا بالعكوز


لم اسأل يوماً عن سبب ضرب العجوز لمن جاء يعطيها اللوبان، لكنني تسائلت عن ارتباط الحج باللوبان، ولماذا لم يُحضر خالي مع لوبان عندما عاد من الحج؟ أحضر معه أعواد مسواك، قوارير ماء زمزم، سجادات صلاة، وكفن، لكن لا لوبان، فسدت الأهجوزة عندي ولم يعد لها معنى، جلس خالي في منتصف الطاولة يحكي لنا عن رحلته للحرم بينما تجهز العصيدة التي ما ان وصلت حتى صمت الجميع، جاء احدهم بالعلم الأبيض الصغير الذي ارتفع فوق سور البيت منذ خروج خالي للمطار ولم يُنزل الا اليوم، وُضع العلم في وسط العصيدة وانتظر الجميع سقوطه، يقول الموروث الشعبي بأن سقوط العلم هو بشارة لمن أشار العلم نحوه بأن دوره في زيارة بيت الله الحرام قد اقترب، لا حاجة للقول بأن لا علاقة لسقوط العلم بموعد حجتك، الأمر قطعاً في تقدير رب البيت اولاً، او في يد مسؤول فاسد او مرتشي، لكن الأمر كان جميلاً، رؤية الأعلام منتشرة فوق الأسوار فقط كانت مُبهجة٬ وها انا ذا اقف في شارع مسة منتظراً بن غزي، مُبتهجاً مُبتسماً فرِحاً بالعيد وبالعلم الابيض فوق بيته.

المشهد الأخير:



هل لهذه الطريق نهاية؟


اسألك أنت يا صديقي، يا رفيق الحرب و السلم؟


خرجنا في هذه الليلة نتمشى في كورنيش المرسى، نسمات الصيف تضربنا ضرباً، لم تكن السماء ماطرة، لم يكن فيها غيوم حتى، ولم تُنزل عيناي دمعةً واحدة، لكنني -ور غم هذا- ابتللت، أغرقتني دموعُ لم تنزل من عيني، اسأل نفسي في كل خطوةٍ أخطوها، هل لهذه الطريق نهاية؟


أرى الناس يبتسمون هنا فأستغرب ندرة هذا الشيء عندنا، أرى أماً تجري فيلحقها أطفالها بينما ترتفع ضحكاتهم جميعاً، يعيدني المشهد لمطار بنينا حيث جلس الطفل يبكي في عربته حتى تقطعت احباله الصوتية -أو كادت- بينما تحاول الأم اسكاته وينهاها الأب متحججاً بقرب وصولهم للبوابة دون حتى أن يُبعد هاتفه ويري مالذي يُبكي طِفله، ربما سيأتي بعد عشرون عاماً مُستغرباً من تصرفات ابنه هذا، ربما سيرى البعض الإبن عاقاً اذا ما وضع هذا الأب في دار العجزة ذات يوم، سيحكي الناس بأن الاب تعب وعمل وكد وكافح حتى يصرف على ابنه هذا، لكنه لم يعطه الأهم، لم يعطه حُباً، أخبرني يا صديقي، لماذا لا ينبت الحب كما ينبت القعمول في هذه الأرض، لماذا لم يكتشف الأوربيون الحب كما اكتشفوا النفط عندنا.


أسأل نفسي ايها الصديق الصادق، هل سنعرف الحُب في بلادنا يوماً؟ هل ستصل الحياة هناك؟ لقد مللت السفر إلى تونس في كل مرةٍ أردت فيها أن اكون فيها انساناً، صفحات جواز سفري لا تكفي لذلك، أجبني يا صديقي، هل لهذه الطريق نهاية؟


39 views0 comments

Recent Posts

See All

31

Comments


bottom of page