يسأل ناظم الغزال مُغنياً
" قل لي يا حلو منين الله جابك؟"
يتردد السؤال في السيارة بينما تنعطف داخلة الطريق الدائري الرابع، مباني المدينة تبدو كدجاجة منتوفة الريش، بعضها مضيء، بعضها مظلم كمعظم سكانها، اعتادت المدينة واهلها على انقطاع الكهرباء حتى بات السؤال عن الكهرباء عرفاً من اعراف السلام عند دخول احدنا بيته، فيسأل الفرد أهله قائلاً
"كيف حالكم؟، انقطع اليوم؟"
أعود وبدون سببٍ يذكر لعام 2015، لصيفه تحديدا، في ليلة من لياليه، كنت قد انتهيت للتو من حزم حقائبي استعداداً لرحلة لا اعرف نهايتها ولا مدتها، رافقتني تلك الحقائب طوال اربع سنواتٍ كاملة قضيتها على الجزيرة القبرصية اكملت فيها تعليمي الجامعي، وضعت في تلك الحقائب كل ما اعتقدت انني احتاجه، وفور اغلاقي للحقيبة عم الظلام، انقطاعٌ تام للتيار الكهربائي على المدينة كلها، نظرت من النافذة باحثاً عن نقطة ضوء، وحدها النجوم رفقة القمر مضيئة، خشيت ان يغلبني النعاس فتفوتني الطائرة، ظللت مستيقظاً اجول داخل الشقة هرباً من النوم
أنزلت الحقائب
عدت للأعلى
تأكدت من اني لم انس شيئاً
تأكدت مرة أخرى
اعددت كوباً من القهوة
شربت قليلاً منها ورميت الباقي
لا اذكر اذا ما كنت تلك القهوة سيئة
ام ان الوقت كان سيئاً لشرب القهوة
جاء موعد الخروج
وضعنا الحقائب في السيارة، نظرت للشارع رغم انني وُلدت في شقة بحي الكيش، وعشت هناك معظم طفولتي، الا انني نشأت وكبرت وصنعت ذكرياتي بين اسوار شارع نهر الليطاني هذا، كان الشارع خالياً، خالياً من كل شيء، الضوء، الحياة، لا احد هناك يودعني، نظرت نحو السماء، حتى القمر لم يكن هنا، لا أحد يودعني سوى الظلام، ذات الظلام الذي رافقنا حتى خرجنا من المدينة وطلت علينا شمس الصباح فوق الجبل الأخضر.
أحمد ايها الفتى الغريب، إلى أين؟
سألت نفسي ذات السؤال بعد تلك الليلة بينما كنت خارجاً من بيتنا، لا أعرف صراحة أين كنت انوي الذهاب، كل ما اعرفه انني صعدت السيارة وخرجت، شوارع بوهديمة ليست الأجمل في الارض، ولا تربطني بها اي عاطفة مبنية على ذكرياتٍ جميلة عشتها هنا، لكن لها شعوراً، خرجت من بين الأزقة حتى وصلت شارعها الرئيسي، الشارع الذي يُنقذ سكان المدينة من بؤسهم ويرسم على وجوههم ابتسامة ويضخ بداخلهم سعادة مزيفة تنتهي بانتهاء المخدر الذي اشتروه من هنا؟.
بعد وفاة جدي في شتاء 2015، انتقلت للعيش بشكلٍ جزئي في بيت جدي، وعلى عكس بيتنا هذا، كان لي في بيت جدي حياة، كنا نجتمع ليلاً نستمع إلى أخبار الحرب وأصواتها، تدفئنا طاسة شاهي حمراء تعلمت لاحقاً طريقة اعدادها من جدتي، ظللت هناك حتى خرجت لقبرص مغترباً، حتى في رمضان ورغم سفر جدتي، صرت انا وابن خالي ننام في البيت، ونُفطر في بيوتنا، ذات يوم، وبعد الإفطار، بينما كنت احاول الاستفافة من خدر سبسي الفطور الشهير، سمعت صوتاً غريباً اعتقدت ان ابناء الجيران يحركون شيئاً، ثم انفجار، صوت الانفجار كان كفيلاً باحيائي لو كنت ميتاً، لحظات احاول اسيتعاب فيها ما حدث، يتصل بي أنس بن غزي
-"سمعت اللي توا؟"
أساله فيجيبني بالايجاب
- "قالوا قذيفة ضربت الكوبري"
ولمن لم يسمع صوت انفجار قذيفة قبلاً دعني اخبرك بأن ما تسمعه في الاخبار والافلام ما هو الا نسخة لطيفة من الواقع، للانفجار صوتٌ مرعب، له صوت الدمار، له صوت معاناة انسان بُتر احد اطرافه، له صوت غربة الموت، في الانفجار صراخ امهات وبكاء اطفال، هو الرعب مكتملاً.
اسأل بن غزي عن اي اصابات فيجيب ثم يسأل هو
"شنو نطلعو؟"
دقائقٌ واكون واقفاً تحت بيتهم في شارع مسة، نخرج نمشي معاً نحو الطريق الرئيسي، هناك كان المشهد سيريالياً، الرعب والغضب على وجوه كل من بالشارع، سيارات اسعاف وسيارات عسكرية تجوب الشارع ذهاباً وايابا، الكل في قلق، ووسط كل هذه الفوضى، احمقان يقفان يبحثان عن تاكسي يقلهما للمقهى، كان ذلك المقهى مهرباً لنا من الحرب، ووسيلة نحاول ان نحافظ بها على مدنية هذه البقعة، البقعة التي ما انتهت الحرب حتى انكرتنا كأننا ابناء فُعلة.
"احمد ايها الفتى التائه، الا تمل من الذكريات؟"
يصدح صوت الصافي مغنياً في سياراتي، مازلت أجهل الوجهة التي اقصدها، انا فقط اسير، اجد زحاماً على اليمين فأنعطف يساراً، أجدني امر بشارع القيروان ومدرستي الاعدادية، اخطف نظراتٍ سريعة نحو سورها، لم يكن السور لطيفاً بهذا الشكل يوم دخلنا المدرسة، أتذكر سريعاً جلوسي بجانب السور وتحت الشمس منتظراً والدي، كانت طرق عودتي من المدرسة متنوعة، ننتظر والدي أحياناً، استقل حافلة ربع في بعض الاحيان، لم اكن اعرف حينها سوى هذا الخط، خط جليانة الذي يخرج من الفندق البلدي، يمر بجليانة، يعبر تحت كوبري طرابلس ثم يمر بجانب مدرستي، ويتجه نحو سوق الزيتونة، عرفت لاحقاً بأنه ينعطف بعد ذلك عائداً نحو الفندق، في بعض الاحيان كنا نتقاسم اجرة الركوب، نفتح الباب ونخبر السائق "اثنين معانا ربع" يرفض السائق احيانا فنغلق الباب ونبحث عن حافلة اخرى، في بعض الاحيان كنا لا نملك سوى ربع دينار فعلا، وفي احيان اخرى كنا نفعل ذلك طمعاً في توفير ربع دينار، داخل الحافلة كان عالماً غريباً بالنسبة لي، اشخاصٌ مخلتفون من وجهات مختلفة وقصص مختلفة، جمعتهم هذه الحافلة الصغيرة، ربما كانت الحافلة جزءاً او مظهراً يعبر عن هذه المدينة ومافيها، تعلو اغاني "المروكي" من مذياع الحافلة البايونير، ويستقر على طبلون الحافلة في كثيرٍ من الاحيان مجموعة من الاشياء الغريبة بالنسبة لي، صوف او فرو صناعي، علبة مناديل غريبة اللون، تتدلى من مِرأتها مسبحة او قلادة، معطر جو كُتب عليها نادي المشوار الطويل، سائق الحافلة هو من فصيلة انقرضت هذه الايام بانقراض الحافلات، اما عن الركاب فهم كُثر، اربعيني عائدٌ من المصرف، عجوزٌ كانت تشتري الخضار من الفندق، مُسنٌ كان رفقة اصحابه المتقاعدين في قهوة من قهاوي البلاد، ونحن، طُلاب المدارس، تُرى أين اختفى هذا الخليط؟
أما اخر طرق عودتنا من المدرسة، فكانت سيراً على الاقدام، لم تكن المدرسة بعيدة عن بيت جدي، عشر دقائق او ثلاثون، واختلاف الوقت هذا سببه اختلاف الطرق، كما الافلام والقصص، هناك طريقٌ مختصرة لكنها "خطيرة" تشق منطقة الزيتونة، لم نكن نسلك هذه الطريق الا في مجموعة، وطريق طويلة "امنة" تمر بمركز شرطة الفويهات، كنا نسلكها فُرادا معظم الوقت، اذكر انني في مرة تشجارت مع رفيق الطريق اثناء عودتنا ولا اذكر حقا سبب شجارنا، لكنها كانت اقرب للمشادة الكلامية، فمشى كلٌ منا على رصيفٍ مختلف في نفس الطريق، سبقته بخطوات، تباعدنا، ودون ان ادري وجدتني اسقط في حفرة صيانة مُهملة عند المنتزه (البوسكو)، حاولت الخروج ونجحت في ذلك بصعوبة، وما ان خرجت حتى وجدت ذات الرفيق واقفاً يلتقط انفاسه بعد ان ركض نحوي ما ان رأني اسقط، بات ذلك الرفيق بعيداً لو ركضت عمراً لن اصله، لو يدري فقط اي حفرة سقطت فيها بعد بُعده.
تمتد الطريق، اجدني فيما كان يُعرف يوماً بين اهل المدينة بطريق الموت، الطريق الذي كانت بدايته كتيبة الفضيل بوعمر يوم كان يخشى الناس النظر نحوها اذا مروا بجانبها، تمتد الطريق لتمر بمركز بنغازي الطبي، المستشفى الذي استغرق بنائه قرابة الثلاثة عقود، تمضي الطريق مارة بمستشفى الهواري فالقلب ثم مستشفى النفسية واخيراً ينتهي كل شيء عند مقبرة الهواري، ولهذا سميت بطريق الموت، فبدايتها معسكر ونهايتها مقبرة، وبين هذا وهذه مستشفيات، كانت الحياة في هذا الطريق تختفي تدريجياً كلما اقتربت من نهايتها متجهاً نحو المقبرة، امتدت المدينة حتى اقتربت منها، فبات الحياة والموت قريبان من بعضهما حد التلاصق، المقبرة التي كانت بعيدة عن المدينة صارت تحتضن طرفاً من اطرافها، الموت الذي كان يراه سكان المدينة بعيداً عنهم اصبح جزءً من بنغازي، أنظر نحو سور المقبرة القديمة التي توسعت هي الاخرى كتوسع المدينة، يخطرني تميم عندما قال "ابحث عن قبر من نبكي فلا أجد"، خلف هذا السور يرقد من احزننا غيابهم، لكنهم ليسوا من ابكي اليوم، فهؤلاء ابتعدوا مرتين، مرة بغيابهم ومرة بقبورهم، أنعطف يمينا متجهاً لوجهتي التي حددتها للتو، يستمر الصافي في الغناء، تستمر الطريق امامي، هل حدد أحدٌ تاريخاً لانتهاء الرثاء؟ متى يمكن للمرء ان يتوقف عن رثاء من فقد؟ يعود تميم مرة اخرى قائلاً "كفوا لسان المراثي انها ترفُ"، عندما لا يمكن للمرء ان يرثي يكون الرثاء حقاً ترف، يكون ميزة يطعن غيابها صاحبها الف مرة، ان الرثاء وسيلة الفاقد للتعبير عن حزنه تخفف عليه ولو للحظات جفاف الفراق بقطرات مطر بسيطة، يغيب الرثاء فيغيب المطر و يزداد الفراق جفافاً، يموت الميت مرة واحدة، اما فَاقده فيموت مرات ومرات، يموت عندما يذكره، عندما يذكر غيابه، عندما يقف عاجزا عن بكائه، يصير هو ايضاً ميت، لكنه ميتٌ منسيٌ بين الاحياء، يسير بينهم ويضحك معهم، لكنهم لا يرون موته، ترى مت.....
اصوات فرامل سيارة
ضوء ساطع على اليمين
اصطدام
يسرق الصافي اللحن وينسحب من بين يديه قائلا "دواء داي لا ما تحجروها"
لم تنتهي القصة.
Comments