استيقظ صباح الجمعة، يعصر الصداع دماغي ويرميه الدوار يميناً و يساراً كالمكموخ، لا اذكر اني شربت ليلة البارحة، و أقسم بأنني لم اذق طعمه، لكن اثاره تحاصرني، استيقظت صباح اليوم ومازلت أذكر سؤالك ليلة البارحة عندما سَكِت فجأة،
أخذت نفساً من سيجارتك
ونظرت لي
ثم قلت
"زعما نحن من؟"
لم تفلح القهوة في طرد الصداع والدوار، ولم تفلح الأغاني في طرد سؤالك، ولهذا وذاك، دعنا نجب معاً على هذا السؤال، ولنبدأ من حيث بدأنا نحن، من لقاؤنا الأول قبل احد عشر عاماً تقريباً .....او اثنى عشر، في ليلة الخميس تلك رأيتك للمرة الأولى، كنت انت متشحاً بوشاحك الأخضر الشبيه بكوفية اهلنا في فلسطين، وكنت انا واقفاً جنبك، كنا يومها فتية بأحلامنا وافكارنا الطائشة الجامحة بكل أنواع الجموح، نقف وسط الجموع، ورغم ما يُقال عن فبراير وبرد لياليه الا اننا -انت وانا- شعرنا بالدفء.
أذكر بريق عينيك في ليلتها، أذكر ارتعاش صوتك وخروجه على خجل كخجل العذارء هاتفاً "الشعب يريد اسقاط النظام"، في تلك الليلة، لم نكن نفقه في السياسة، لم نعش أي تجارب مشابهة، فقط فتيةٌ نرى أقراننا في مصر وتونس يتحركون ويُحرِكون الشارع، ونحن نقف بينهم، لم نكن نعرف ما نصنع، لم ننخرط في حزبٍ مثلاً، لم نعتد على ان نقول لا، كنا جيلاً يُرى على انه ضائع، من سبقنا مِن أجيال يستصغر أفعالنا ويستصغرنا، وبينما كانو هم يخشون نُطق اسمه حتى في السر، ويسمونه خوفاً "صاحبنا" ها نحن نقف في الشارع نهتف علانية ضد العقيد ومن معه نناديه باسمه مُهددين له.
تسألني (اذن من نحن ومن هم؟)
فأجيبك هم الذين عاشوا تحت حُكم العقيد اربعون عاماً دون ان ينطقو بحرفٍ ضده الا من خارج البلاد، هم الذين هتفوا له وصفقوا عندما نصب المشانق لغيرهم وتركوه عندما كانت المشانق لهم، هم الذين جلسو خلف أبوابٍ مُغلقة بينما كنا نحن نجوب الشوارع، كنا نحلم كما أخبرتك، نرى أقراننا في جوارنا يواجهون القنابل المسيلة للدموع فنستعد لها، لكن دموعنا نحن سالت بدون قنابل، سالت لتلامس الأرض وتُجِوار دماء رفاقنا.
كان والدي في كل زيارةٍ لمقبرة الهواري يُخبرني بأن انتبه لخطواتي حتى لا ادوس على قبرٍ ما، أراقب خطواتي اليوم في زيارتي للجَبَّانة بعد ظهر الجمعة حتى لا أدوس على أحدهم، شواهد القبور بالنسبة لي هي تِذكارٌ لما حدث، أرى في الشواهد أسماءٌ عالقة في بالي رغم انني لم أعرف أصحابها يوماً، هنا يرقد الهلالي، هناك جردانو، مقبرة الهواري يا صاحبي هي المكان الوحيد الذي احتضننا نحن دون شرط، غفير المقبرة فقط هو من وقف بجانبنا دون غايةٍ في نفسه، وبالنسبة لهم هم، هذه الشواهد كانت السلالم التي داسوا عليه في طريقهم لمبتغاهم، عُمرنا كان لهم بذوراً رُوِيت بدماء أصحاب القبور ودموعنا نحن، نَمَتْ البذور فصارت ورداً أعطوه لأبنائهم وأعطونا الشوك.
ومازلت يا صاحبي تسأل "من نحن؟"
يتردد سؤالك وسط شوارع بنغازي التي قال الصادق أنها ماتت مقتُولةً في الحرب، مدينة الأشباح المغضوب عليها والضالة، هل تذكر يوم كانت سيارات الشرطة تحيط بمحكمة الشمال لتأمين وقفتهم هم أمامها، هل تذكر طردهم لمن هتف بإسقاط النظام، حتى تلك اللحظة، حتى تلك الساعة كانوا في صفه لا في صفنا، وبعدها بساعات، صارت الشوارع لنا، نملكها نحن، وبعدها بأربعة أيام صارت المدينة كلها لنا، صرنا نحن الجيل الذي أسقط سراويله وأسقط الجماهيرية في أربعة أيامٍ فقط، احرقنا مركز شرطة رأس اعبيدة، حطمنا خيم القبائل وطردنا من فيها، أحرقنا المثابة الأم، هاجمنا كتيبة الفضيل بوعمر، في أربعة أيامٍ يا صديقي حطمنا كل الأصنام التي كانو هم يخشون حتى النظر إليها، وأين كانو هم؟ كانو في ضيافة المحطات في الخارج، أو في مكاتب خلف أبواب موصدة، لم يسمعوا صوت الرصاص، لم يتعطروا برائحة المطاط المُحترق في كل شارع، لم يبتلوا بمطر فبراير، ولم يستنشقوا هواءً نقياً برائحة البارود، كان في الخفاء يتجهزون لأن يُصبحوا قادةً لنا، وقد كان.
نحن من هتفنا ضده بينما صفقوا هم له، نحن من قلنا جاك الدور جاك الدور وهم من قالوا علم يا قائد علمنا، أغانينا نحن كانت أناشيداً للثورة وهما من غنوا يا قائد ثورتنا، والان، أين نحن وأين هم؟، نحن نقف في طوابيرنا بحثاً عن لقمة عيش وهم يقفون في مطارات العالم يبحثون عن سرقة بفن، نبكي نحن في ذكرى ثورتنا بينما يرقصون هم كما رقصوا في ذكرى ثورة فاتحهم، هم الذين يسافرون من بلدٍ لأخر ومن طاولة حوار إلى مؤتمر قبل ان يعودوا بما يؤمن مستقبل أبنائهم، أما نحن، فنحن الذين رأينا حُلمنا يُسرق من جفوننا النائمة، نحن من يقف اليوم على بسطةٍ في الشوارع، نبيع عُمراً، وأحلاماً، وذكرياتٍ لعلنا بثمنها نشتري ما يقينا برد فبراير.
هل عرفت يا صاحبي الان من نحن؟
Comments