يُغلفنا برد نوفمبر بينما نقف على سُلم الطائرة، يُمسك الطفل الصغير بساقي متشبثاً بينما تعلو ملامح الحماس وجهه، يجلس ساكناً بينما تُقلع الطائرة يراقب طرابلس مُبتعدة عنا، تُزين عمدان النور ظلامها كنجومٍ منثورة في السماء فتصير السماء من فوقنا وتحتنا لكنها سماءٌ دون قمر.
على تمام الساعة العاشرة والنصف مساءً في الخامس والعشرون من يناير لعام 1994 وفي ليلة أعتقد أنها ماطرة تردد صوت بكائي بين جدران مستشفى الجمهورية لأول مرة، مرت تسعة وعشرون عاماً على تلك الليلة، بعد عامٍ تقريباً سأكون قد وصلت لعامي الثلاثين، ثلاثون عاماً، العمر الذي ظننته كافياًَ لتحقيق كل ما حلمت به في طفولتي، والان على بعد عامٍ منه أرى انني لم أحقق شيئاً من هذا، اجلس في نوفمبر هذا ينخر البرد عظامي الكهلة، اكتب لما هو قادم، وللمرة الأولى اليوم اكتب لك انت.
أحمد ايها الطفل الأحمق، لماذا لم تحلم بشيءٍ منطقي، لما تحلم بما هو بعيدٌ وصعب؟ لم اصل لشيءٍ مما حلمت به ايه الطفل الصغير، قاومت كثيراً ولكنني اقف امامك اليوم لابوح لك بالعجز طالباًَ منك انت السماح، اقف موجهاً لك انت الخطاب، لا اعرف حقاً اذا ما كنت سأنشهرها مطلع يناير او بعد رحيله، ام تراني سأحتفظ بها حتى يأتي الربيع، ان جاء اصلا!
أحمد ايها الطفل البريء، ألم تكن تحلم بالسفر، دعني اخبرك بأنك ستكبر، ،وستحط بك الطائرة في اماكن عديدة، ستجوب شوارع في مُدنٍ لم تكن تعرف بوجودها أصلاً، ستلتقي بأشخاصٍ من بلدان لم تكن تتخيل وجودها على الخريطة، ستطرق ابواباً عديدة بحثاً عن ذاتك، لكنك بعد كل رحلة ستعود دون أن تجد شيئاً، وعندما تجد، عندما تقف على بعد خطوةٍ واحدة منه يأتي الموت فاصلاً فتعود لنقطتك الأولى، إلى التشكيك بكل شيءٍ تقوم به، العمل، الحياة، تكتب هذه الكلمات وتتسائل عن جدواها و ان كانت تستحق ان تُقرأ أساساً، لكنك تكتبها، ربما في محاولات أخيرة منك للبحث، ربما فقط للتوثيق قبل الغياب.
احمد ايها الطفل الباكي، هل تذكر بكائك المتكرر؟ اقول لك اليوم ان تُخفف منه، سيأتي يومٌ تطلب فيه الدموع ولن تجدها، لكنك ستكون كمن يطلب المطر من غيوم يوليو، هل تذكر فضولك الدائم عن الموت، سيصبح يا طفلي الصغير رفيقاً لك تحفظ ملامحه جيداً، ليس للموت وجهٌ مُرعب، وجه الموت بريء كبراءة الاطفال، مُسالم، يبث فيك الشعور بالأمان، وما ان تطمئن له حتى يضربك دون اسفٍ منه ولا سابق انذارٍ حتى، ستكبر يا أحمد لتقف قبل الثلاثين بعام يحيط بك الندم، تصل للتسعة وعشرين عاماً وتُشهد الله أنك لم تكن أنقى خلقه، وتُشهد العالم بأنك كنت مِن أكثرهم خطأً، تخلع عن نفسك عباءة الفضيلة وكل عباءةٍ ارتديتها يوماً هرباً من الندم، ولكن لا محالة، اقول انه إن كان لقضاة الارض ذلك، لحكموا على المخطئين بالندم بدل السجن، الندم سجنٌ لا جدران له ولا مهرب منه، تكبر يا أحمد لتصير كهلاً يعيش على الذكريات، يقتات على الحنين، تُلام على ذلك أحياناً، ولكن، أي مهرب لك من هذا السجن سوى الذكريات؟ أي شمعةٍ تضيء ظلام الغربة غيرها؟ من يعيد لنا الموتى سوى ذكرياتهم؟
أحمد ايها الطفل المطمئن، سترى الكثير، ستسمع نبرة العجز في صوت والدك عبر الهاتف ذات ليلةٍ في قبرص، ستعود للمنزل منهكاً مع ساعات الفجر، ستقع لتنهض مجدداً، حتى تهوي في نوفمبر ذاك، لن تنهض بعد ذلك، تقع مطلع نوفمبر ذاك وانت فتىً في السابعة والعشرون، تحاول النهوض بعده وانت عجوزٌ في السابعة والسبعون، لن تقوى عظامك على المضي، ستحاول كسر الغربة مرةً تلو الاخرى، لكن ذلك لن يجدي.
أحمد، ايها الطفل الفضولي كثير الكلام، لا أعرف كيف مضت كل هذه الأعوام، لا أدري كيف مضى عامي هذا أساساً، لا أعرف نهاية هذه الغربة، لا أعرف كيف قاومت ولا أعرف نهايةً لهذا، أطلب منك ايها الطفل الحالم ان تسامحني، لم اكن مثلما توقعت مني ان أكون.
Comments