عادة ما يعلن الشتاء قدومه متأخراً في هذه البقعة من العالم، ايام قليلة ماطرة تتخللها ايام خريفية جافة باردة، احيانا يجتمع الاثنان معاً، كالأمس مثلاً، نهارٌ دافيء زادت برودته تدريجياً قبل الغروب، اتصل بي أحد الاصدقاء لعلنا نلتقي، ارتديت ما وجدته امامي من ثياب و خرجت، لم يكن الجو بارداً ولا حار، كان لطيفاً، فقط لطيف، اتجهت للمقهى الذي اتفقنا على اللقاء فيه، صارت هذه الجلسات بطريقة ما وسيلة من وسائل اتصالنا بالمكان الذي جئنا منه، و صارت أيضاً ترينا و بشكلٍ مقلقٍ أحياناً بأننا كبرنا عندما نجلس لنتحدث عن ذكرياتنا و قصصنا، ترينا بأننا لم نعد أولئك الأطفال الذين خرجوا للعب الكرة في الحي فكسروا زجاج أحد المنازل، لسنا أولئك المراهقين الذين تجمعوا حول زميلهم في الفصل بإحدى المدارس الإعدادية، هو يضرب على خشب المقعد أو الباب، و هم يغنون من وارئه، بل صرنا هؤلاء الشباب الذين وضعهم القدر بجزيرةٍ ما وسط المتوسط ربما لو كانت حالة بلدهم الام افضل لما سمعوا باسمها يوم.
مللنا الجلوس فاقترحت كعادتي أن نخرج لنتمشى قليلاً، كان البرق يسطع في السماء، قال أحدنا يبدو أنها ستمطر.
نفيت ذلك قائلاً بأن السماء صافية و هذا سحاب بعيد، من حسن الحظ اني لم افكر بأن اكون خبير ارصادٍ جوية، فقد قررت الغيوم أن تباغتنا و في لحظات تحول الجو من صافي الى ماطر،و من حسن الحظ اننا كنا قريبين من ذات المقهى الذي كنا فيه، سارعنا بالدخول نختبيء من المطر، اخذ بعضنا يلتقط صوراٍ للمطر فلا ندري متى يعود، أما انا فقد تعلق تفكيري بطفلٍ صغيرٍ دخل بسرعة الى المكان يحمل مجموعة ورودٍ يسترزق ببيعها، تبعه بعد لحظات اطفالٌ اخرون زملاءٌ له في العمل، لطالما كرهت هؤلاء الاطفال، فبالاضافة لأنهم يبيعون الورود و التي ستكون اجمل لو انها تُركت في حدائقها، فهم يختارون اسوء الاوقات للقدوم اليك، اذكر مرة انني كنت جالساً مع زميلة لي ننهي امراً ما عندما قرر احد اولئك الاطفال ان يعطينا احدى اغرب اللحظات و اكثرها حرجاً بأن تقدم الى طاولتنا و عرض علي ان اشتري وردة لمن معي، لم يكتفِ ذاك اللعين بهذا بل و قال بضعة كلمات فهمت منها بلغتي التركية الضعيفة ” انظر الا تستحق هذه الجميلة وردة؟”، لسوء حظي و حسنه معاً كانت زميلتي هذه تركية فنهرته و وبخته فرحل.
وقف الطفل للحظاتٍ ينفض قطرات المطر عن معطفه، ثم جاب بنظره المكان باحثاً عن زبونٍ محتمل، حدد الهدف ثم اتجه نحوه عارضاً بضاعته، الطاولة الاولى ترفض،
الثانية يعاين الورد بنظرة خاطفة ولكنه يرفض،
يناديه منادٍ من طاولةٍ ثالثة، يتجه نحوه الصبي بفرح، يماطله المشتري قليلاً، يجادله في السعر، اخيراً يقبل و يشتري، ترتسم ابتسامةٌ عريضة على فم الفتى، مسكينة هذه الوردة، هي الان بين يدي أكثر خلق الله مزاجية، ان احسن هذا الشاب لمحبوبته ستبقى هذه الوردة محفوظة، و ان اساء فستُهمل و تُرمى و تكون قد قطفت بدون اي فائدة، ما اصعب ان تكون وردة فعلا، يقطفك احدهم من بستانٍ ما ثم يبيعك لطفلٍ صغير يجوب الشوارع كل مساء و انت تجلس في سلةٍ يحملها على جانبه منتظراً ان يشتريك احدهم، قد يكون المشتري فتىً يخرج لأول مرة مع صديقته، يبحث عن وسيلة لاستمالتها نحوه و لن يجد افضل من الورد لتأدية هذا الغرض، اخرٌ تشاجر مع محبوبته فاشترى لها وردة لترضى، تجلس معهم على الطاولة بينما تعبث الفتاة بك و تستنشقك من حينٍ لاخر ،
“أنتِ وردة حياتي”
يغضبك كمية الابتذال في هذه الجملة، و يغضبك الكذب فيها، فأنت كوردة لم تتصنع لتصبح بهذا الجمال على عكس هؤلاء البشر.
قد تنضم لمجموعة ورودٍ اخرى صُنعت لمريضٍ ما في مستشفى، هو يتعافى و يخرج، و انت و اخوتك تذبلون بعد ذلك، قد توضع هذه الباقة على قبر ميتٍ أو قتيل، يتذكره الناس دوماً و ينسونك هناك فتموت مرتين، كل هذا لأنك خُلقت بهذا الجمال، انت حقا لا تستحق هذه المعاناة.
استمر في متابعة الطفل يتنقل بين الطاولات يطمح لأن يبيع اخر وردة معه فينتهي دوامه، يصاب بخيبة امل بعد ان فشل في ذلك، يقف منتظراً توقف المطر بحزن، إن كانت الوردة لا تستحق كل هذا، فهذا الطفل حتما لا يستحق هذا ايضا، لا يستحق ان يكون تحت رحمة هؤلاء الناس، يستحق ان يلعب مع اقرانه تحت المطر، يستحق ان توبخه امه على هذا بعد ان يعود من اللعب مبتل الثياب، يستحق ان يفرح الان فالحزن سيأتي لاحقاً، و ان لم يفرح الان فلا فرح في المستقبل، بالنسبة لهؤلاء العشاق الورد رفاهية، بالنسبة له فالورد رزق،
” تعال يا ولد سأشتري منك هذه الوردة اهديها لنفسي او احفظها لمن لم يأت بعد، اما انت فاذهب و العب، خذ و اشتر لنفسك حلوى، خذ لقد أنتهت معاناتك اليوم، و ليكن الله في عونك غداً و بعده يا بني”.
حق لهذه الوردة التباهي والخلود ... فقد اصبحت وجبة ساخنة في معدة طفل تعبت ساقاه وعقله الصغير والذي نضج قبل آوانه من السعى على الرزق ... واصبحت آنيسة للميت في قبره الموحش...وباقة آمل وآماني بالشفاء لمريض... ورمز بين المحبين كدليل على محبتهم ... اعتقد ان هذه الورود هن من يخترن بانفسهن خاتمتهن ويجعلن لموتهن غاية آسمى من حياتهن بدلا من العيش كشئ جميل ونهايته الحتمية الذبول والموت.