top of page

28 عاماً

ahmedobenomran

بوهديمه، شارعٌ بلا اسم، يناير 2022

مع غيوم يناير وأمطاره ولياليه البيض والسود تأتي ايضاً ذكرى مولدي، الذكرى التي تجعلني في كل عامٍ انظر نحو الماضي مفكراً في أخطاءٍ قمت بها بغية التعلم منها أو جلد الذات، يأتي معها أيضاً سؤالي لوالدي عن تفصيل الليالي واين الطوالح والموالح والكوالح والصوالح، ليبدأ والدي بعد السؤال في سرد معلوماتٍ ينقلها لي عن جدتي جازية التي رحلت قبل أن ترى حفيدها الأول، حفيدها الذي جاء في ليلة من الليالي الصوالح قبل 28 عاماً من الأن، ينظر لصورةٍ له معلقةُ بجانب المِرأة، تغيرت الملامح كثيراً بين الصورة وبين الانعكاس في المِرأة حتى لم أعد أعرف كلاهما، كنت قبل ثلاثة اشهرٍ فتىً يبلغ من العمر 27 عاماً، وها أنا شيخٌ ذا 78 خريفاً.

وقفت بسيارتي في شارع نهر الليطاني بحي الفويهات، في هذا الشارع كُتبت كلماتٍ عديدة في قصتي، خِيطت هنا قصص الطفولة العديدة والتي صرت أحملها معي دون أدري، هنا ضحكت، لعبت، كبرت، واكتسبت لقباً لم أكن أدري حينها انه سيلازمني لبقية حياتي حتى صار الناس يعرفونه بدل اسمي المُسجل في وثائق الدولة، كنا كبقية الأطفال في عمرنا أنذاك، نعود من مدارسنا يرهقنا التعب والإعياء بعد يومٍ طويل من الحصص التي لا تنتهي يتحدث فيها مدرسون كُثر عن أشياءٍ لا نعرفها ولا نرى لها فائدةً وقتها، أدخل لبيت جدي أرمي حقيبتي فيه قبل أن أخرج مسرعاً للشارع منتظراً خروج بقية الفتية، ينقلب ذاك الشارع الصغير في لحظةٍ إلى ملعب كرة نراه واسعاً كوسعة الملاعب التي نراها عبر التلفاز، لا أدري اليوم إذا ما كان هذا الشارع دوماً صغيراً أم أنه صغر كما صغرت أحلامنا عندما كبرنا، ينتهي اللعب في حالتين فقط، إذا ما أرهقنا التعب فتجدنا نجلس بجانب أحد المنازل نتبادل أطراف الحديث، أو إذا ما خرج صوتٌ من أحد المنازل منادياً أحدنا فيكون هذا الصوت كصافرة الحكم، يدخل كلٌ منا لمنزلهم دون أن نتفق على ان نلتقي في اليوم التالي، ولكننا كنا دوماً نلتقي، داخل المنزل تكون جدتي قد فرغت من تجهيز الغداء، لجدتي سرٍ غريب في الطبخ، فكل ما تطبخه يكون دوماً لذيذاً ذو نكهةٍ سحريةٍ مختلفة، تنسب جدتي الفضل في ذلك إلى فرنها، ولكنني ارفض دوماً أن أصدق هذا، فقد تغير المطبخ، وتغير الفرن، وبقيت أطباق جدتي كما هي عليه، و أعتقد اليوم أن هذا سحرٌ لكل الجدات في كل بقاع الأرض، وكأن الجدات كائناتٌ مختلفة عنا لهن سحرهن وحنانهن الخاص، يكون أسعد أيامي فيما مضى هو ذلك اليوم الذي تجعلني جدتي رسولاً إلى أحد الجيران حاملاً لهم طبقاً ما، أخرج من البيت متجهاً لأداء مهمتي مهما كانت الأجواء ماطرةً او مشمسة، ظللت أقوم بهذه المهمة حتى كبرت، أقف اليوم في الشارع بعد أن شربت (شاي الضحى) رفقة جدتي، أرى في الشارع وجوهاً عديدة رغم أنه كان خالياً، ابن خالي الذي كبرت معه في ذات البيت وتعلمنا كل شيءٍ هنا معاً، شارع الجامع الذي جلسنا بقربه نشق طريقنا وسط سن المراهقة، عندما أدار الكل لنا ظهره وتركنا وحدنا، مجموعة من المراهقين يُبحرون في بحرٍِ لا يعلمون عنه شيئاًَ متجهين لوجهةٍ لا يرونها ولا يعرفونها، ابن عمتي الذي سبقته انا للدنيا بيومين فقرر أن يسبقني هو خارجاً منها لاحقاً برفيقه الذي سبقنا كلنا، تاركين ايانا نعاني مع هذا المركب وحدنا، أرى جدي يقف أمام المنزل مخرجاً مفتاحه، جدي ذاك الذي رأني أكبر أمامه حاملاً أحلاماً لم يتوقف يوماً عن دعمها، هو ذات الجد الذي رأيته يضعف أمام المرض حتى صار في بعض الأحيان ينسى من أكون، جدي الذي خرجت بيه رفقة خالي متجهين للمستشفى صباح يوم جمعة من شهر يناير عام 2015، خرجنا ونحن نعلم تماماً بأنه لن يعود مرة أخرى للبيت، جدي الذي لا أعرف من أين جاءتني الشجاعة أن أسند رأسه على فخذي، عجيبة هي الدنيا، فيما مضى كنت أسند أنا رأسي إليه عندما كنت طفلاً ذو أربعة أعوام، وها أنا ذا أسند رأسه هو إلي وانا طفلٌ في الحادية والعشرين من عمره، توقف لعبنا للكرة فجأة، توقفت لقائتنا فجأة، هجرت الشارع بأكلمه عندما صرت أشعر بأنه بات ضيقاً كئيباً، لم يكن الشارع وحده ضيقاً بل كل شيءٍ بات ضيقاً.

غرفتي

بيتنا

المدينة بأكملها

أحلامنا

لا أؤمن بوجود زمنٍ جميل، قلوبنا نحن هي التي كانت جميلة، قلوب أطفالٍ صغارٍ لا يحملون من هم الدنيا شيء، كبرنا فتلوثت قلوبنا كما تلوثت رئتانا بالقطران والنيكوتين من سجائرنا، صرت أرى غرباناًً تحلق فوقنا لا أدري من اين تأتي ولماذا يزداد عددها؟

أخرج من بيت جدي متجهاً إلى ذات المقهى الذي أقصده كل يوم سبت، يستوقفني طفلٌ صغيرٌ يحاول قطع الطريق من أمام المدرسة القريبة، هنا دخلت قبل أعوامٍ صباح أول يومٍ دراسيٍ لي، لم أكن أدري مالذي يدور حولي ولا أين أقف الأن، كل ما ما أعرفه حينها أنني كنت في مكانٍ غريب، شعور الغربة الذي دفعني للوقوف منتصف الساحة باكياً معبراً عن غربتي، الغربة التي لم تنته إلا برؤيتي لابن عمتي بين كل الأطفال، الغربة التي ستظل تلاحقني لسنواتٍ لاحقة، أشير لذلك الطفل بعد أن اقف بسيارتي أن يقطع الطريق، ينظر نحوي بابتسامة طفلٍ تحمل كل البراءة بين ثنايها، تدفىء ابتسماته شيئاً من برودة الطقس، ارى نفسي في عينيه فأقول لنفسي مخاطباً اياه ومحدثاً ذاك الطفل الذي وقف صباح يومٍ من أيام سبمتبر عام1999 في ساحة براعم النصر،

احمد ايها الطفل التائه اصبر

لا تيأس

امضِ في طريقك

احمد ايها الطفل التائه

…….

يقول كارل يونج واصفاً المعالج النفسي بأنه: “معالجٌ جريح”، فهو -أي المعالج-، يحمل من الجراح ما يحمله غيره من البشر، إلا انه ينسى هذه الجراح في عمله ليدواي جراح غيره، لم أدرك جيداً معنى كلامه هذا عندما سمعته للمرة الأولى، لكنني صرت أفهمه شيئاً فشيء مع مرور أيام عملي، استيقظت ذات صباح بعد ليلةٍ لم تكن سهلة متجهاً للعمل ولا أدري كيف سأقوم به، كان جرح رحيل ابن عمتي مايزال حديثاً لم يبرأ بعد، ولم يمهلني القدر كثيراً حتى أصابني بجرحٍ لا أظنني أشفى منه أبد الدهر، طوال الطريق كنت صامتاً صافناً لا أجد كلماتٍ أنطق بها، أصارع دموعاً تريد الخروج وأقمعها كحاكمٍ ظالم، وأظنني ظالمٌ بحق نفسي حقاً، رغم هذه الجراح، وجدتني أقف هادئاً مبتسماً مُطَمئِناً لشخصٍ اتاني يشكي من جراحه، بهدوءٍ تمنيت لو استطعت أن أمنحه لنفسي وجدتني اعطي لذاك الشخص مساحة يشكي فيها همومه و نتحاور معاً عن طرق لحلها، يخرج من عندي مبتسماً أهدأ من لحظة دخوله، ويتركني أنا في ذات الحيرة والصراع، صدقت إذن يا كارل!

ذات الجملة تعود لذهني بينما كنت جالساً على شاطىء الشابي، أنظر حولي للبحر، طيور النورس تحلق عالياً فوق البحر باحثةٍ عن طعامه، والغربان تطير فوق تبحث عن شيء لا أعرفه، إن للموت غربان لا يراها سوى من رأى الموت بقلبه، أنظر حولي لبنغازي، فأجدها هادئةً مملة كئيبة، لا أعرف إذا ماكنت بنغازي أجمل في صبانا، أم نحن من كنا جميلين لا نرى إلا الجمال، لا شيء يحدث في بنغازي، لا شيء فيها يحفز شخصاً مثلي للكتابة عن حاضرها، فأجد نفسي إذا ما قررت الكتابة أبحر بين أمواج الماضي، أهرب للذاكرة من هذا الواقع الذي أراه أمامي، كانت بنغازي في طفولتنا مبهجة مشمسة حتى في أكثر أيامها أمطاراً وغيوم، اليوم أقف أنظر للمدينة تحت شمسها فأجدها رمادية قاحلة، يقول البعض بأن بنغازي مدينة الثقافة والفنون، بل هي مدينة الجوع والفقراء، مدينة أيتام الأحلام والمشردين، ربما كانت بنغازي في ما مضى مدينة، لكنها اليوم صارت غولاً يأكل أحلام أبنائه ويقتل كل جميلٍ فيهم، صدق الصادق النيهوم عندما قال بأن بنغازي عفريت مدينة، وليت الصادق عاش ليومنا هذا ليرى كيف أنهى هذا العفريت كل شيءٍ لطيف في المدينة حتى صارت وسكانها كالنار التي لا تبقي على شيء حتى صرنا بداخلها عفاريت بشر تسير تائهة لا تدري متى ينتهي هذا التيه.

11 views0 comments

Recent Posts

See All

31

Comments


bottom of page