top of page

27 عاماً

ahmedobenomran

السادس والعشرون من شهر ديسمبر، خرجت صباح السبت الدافيء لقضاء بعض المشاوير، كان يوماً دافيءً قبل ايامٍ اخرى باردة ستليه، هكذا تقول توقعات الارصاد الجوية، هكذا يقول المعتقد الليبي، فوفقاً للموروث كان هذا وقت دخول ليالي الشتاء الاربعين الباردة التي تبدأ بالليالي البيض وتنهتي بالسود، وفي البياض هناك الكوالح والطوالح، وفي السواد هناك الموالح و الصوالح، تبدأ من اواخر ديسمبر وتنتهي مطلع فبراير جاعلة من يناير شهرها المفضل الذي تمتد فيه، ويلحق الليالي هذه ليالٍ اخرى تكون دافئة احياناً وباردة احياناً اخرى، وتقول الخرافة ان عنزاً خرجت في هذه الايام فرحةً تجرى في المراعي شامتةً في الشتاء الذي ذهب دون ان يضرها، ساخرةً منه ومن ضعفه، فغضب الشتاء و استلف يوماً من كل فصلٍ ثم عاد يوم الثاني عشر من فبراير وظل هناك حتى الرابع عشر من ذات الشهر في ليالٍ اسموها قرة العنز تخليداً لذكرى تلك العنز التي انتقم منها الشتاء، وكتلك العنز خرجت انا صبيحة هذا السبت لاستمتع بقليلٍ من الدفيء، ولكنني طبعا لم اكن شامتاً في الشتاء الذي تأخر برده، بل خوفي من الشتاء هو ما جعلني اخرج في غيابه، او بمعنى اخر، انا خرجت مستمتعاً بضعف شتاء دسيمبر قبل ان يأتي شتاء يناير الشديد، يناير شديد البرودة كثير الامطار، والذي اسماه الليبيون قديماً فحل الشتاء، وقالوا في مدحه “ما جابه اي النار فحل الشتاء بالعوايد…يبال مارس وفروار اللي لاحقتهن صهايد”، وفي هذا القول مدحٌ لقوة يناير، واستهتارٌ بمارس وفبراير اللذان يبدأ معهما موسم الربيع و يلحقهما الطقس الساخن.

بعد شهرٍ من الأن بالتمام والكمال سأكون قد بلغت سبعة وعشرون عاماً، لا اعرف صدقاً مالذي جعلني اتذكر هذا فجأة،

ربما لأنني فكرت في يناير

شهر مولدي

اذن انا مِن اللي جابهن فحل الشتاء

ابتسمت

لا ادري لماذا؟

كنت قد انتهيت من قضاء مشاويري

مررت على احد المقاهي لأخذ قهوتي

جلست فيه قليلاً

كان الجو مشمساً دافئاً غير بارد

كان المقهى هادئاً إلى حدٍ ما

كل المعطيات كانت توحي لي بأن ابقى هنا اكثر وقتٍ ممكن، لكن شيئاً ما بداخلي الح علي بالخروج، إلى أين؟ لا اعلم، لا اعرف سوى انني وجدت نفسي في سيارتي متجهاً بلا وجهة، كأن السيارة كانت تقود نفسها، كأنها هي او شيءٌ اخر كان يأخذني إلى مكانٍ ما كمفاجاة، وجدت نفسي اقف على تقاطع شارع القيروان والطريق الدائري الثاني، على يميني كانت مدرسة يوسف بوكر الإعدادية بنين، تذكرت فجأة سنواتٍ ثلاث درست فيها هنا كانت اشبه بالفراغ، اتذكر منها بضع ومضاتٍ ليست واضحة، الزي الموحد البني، وقوفنا في برد الشتاء على تمام الساعة السابعة والنصف صباحاً في طابور الصباح، الإذاعة المدرسية التي كانت فقراتها ومحتواها يعيد نفسه طيلة ثلاث سنوات، يرن في اذني صوت مقدمي الإذاعة –الذين رغم تغيرهم كل عام إلا ان جميعهم كان لهم ذات الصوت-

” واول ما نبدأ به صباحنا اياتٍ من الذكر الحكيم يتلوها علينا الطالب فلان”

كنا طيلة ثلاث سنواتٍ نسمع ذات المعلومة في فقرة هل تعلم

“هل تعلم ان عين النعامة اكبر من دماغها؟”

تنتهي الفقرات بنداء الراية الخضراء و نشيد الله اكبر

ثم يبدأ قرابة الالف طالب بالتوجه إلى فصولهم، ورغم ان الدراسة كانت تبدأ في الخريف وتنتهي في الربيع، الا ان ذكرياتي عن سنواتي في تلك المدرسة كانت كلها في فصلٍ واحد، كل الذكريات يحيط بها لونٌ رمادي وجوٌ غائم تغيب فيه الشمس، اللهم الا ذكرى واحدة فقط، كانت في بداية الدوام او نهايته اذا ما خرجنا مبكراً بسبب انعقاد المؤتمرات الشعبية، الذكرى السعيدة الكامنة في دكانٍ صغيرٍ بجوار المدرسة استقر فيه مطعمٌ شعبيٌ يبيع “انصاص المفروم بالدحي”، بوليفة، اذكر انني ذات صباح وقبل دخولي للمدرسة تذكرت ان في جيبي ديناراً كاملاً، نظرت يميناً ويساراً حتى اتأكد ان لا احد يراقبني، ثم قطعت الطريق متجهاً إليه، زحمة بولفية لا تعرف وقتاً، وقفت في الطابور لدقائق، ثم طرت في السماء إلى مكانٍ اخر بعد اول قضمة، غمرني شعورٌ لا اجد له وصفاً حتى نسيت نفسي ونسيت الوقت، كانت ساعة الحائط الموضوعة في المطعم تشير إلى السابعة والنصف، تركت كل شيءٍ في يدي واتجهت نحو المدرسة ركضاً خوفاً من ان يُمسك بي احدهم متأخراً فأجد نفسي اتذوق عصا المدير او احد الساديين في المدرسة بعد ان كنت اتذوق مفروم بوليفة، دخلت باب المدرسة الخارجي، يقابلني استاذ فرج الفيتوري رحمه الله

مطعم بوليفة في محله السابق الكائن بالطريق الدائري الثاني (شارع البيبسي)

“وين كنت؟”

يسألني فور اقترابي

لسببٍ ما كان الذهاب إلى بوليفة محرماً في المدرسة لدرجة ان بعض المدرسين كان يخرجون في غاراتٍ على المطعم احياناً، يجري الطلبة في كل اتجاه خوفٍ من المُدرس ويبدأ المدرس في ملاحقة بعض الطلبة في محاولة منه لضرب اكثر عددٍ منهم في مشهدٍ يبدو لمن يراه من بعيد بأن الشرطة قد اغارت على وكرٍ لتعاطي المخدرات، رغم ان هؤلاء ليسوا سوى معلمين، و اولئك ليسوا سوى اطفالٍ وقفوا يفطرون قبل بداية الدوام

كنت اعرف حرمانية بوليفة داخل اسوار المدرسة

لذلك اجبت متردداً

“في القرطاسية نجيب في قلم يا استاد”

” اول مرة نشوف قلم بنته الثوم, خش”

حتى هذه اللحظة لازلت ممتناً لأستاذ فرج لأنه جنبني الوقوف في طابور المتأخرين والتعرض للضرب رغم ان رائحة ثوم بوليفة كانت تصرخ من انفاسي.

حاولت ادارة المدرسة بكل الطرق منعنا من الذهاب، تارة يقف مدرسٌ عند الباب حتى يتأكد من عدم خروج احدنا، تارة يبيعون انصاص المفروم في مقصف المدرسة في محاولة منهم لإغوائنا، لكن لا شيء من تلك الطرق كان مجدياً.

تغير سور المدرسة مثلما تغيرنا نحن، الا انه بات اجمل، ظللت انظر نحوه عبر مرايا السيارة حتى توغلت في شارع القيروان (الوكالات) وغاب عن نظري تماماَ، بعد كل هذه السنوات ها انا ذا تائهٌ لا ادري ماذا افعل تماماً كما كنت قبل خمسة عشر عاماً تقريباً، كنت في ذلك الوقت انساناً خرج من مرحلة الطفولة، يقف على ابواب المراهقة ولا يدري ماذا يفعل؟ فجأة يتغير كل شيءٍ من حولك، بعضهم يحدثك عن انك لم تعد صغيراً على هذه الاشياء التي تفعلها، وفي اوقاتٍ اخرى يخبرك ذات الشخص بأنك مازلت صغيراً على ان تفعل اشياءً اخرى، يرعبك تغيير الاشياء، تخيفك التغيرات التي تطرأ عليك انت شخصياً، لا احد يحدثك عن حقيقة الامور، لا احد يمسك بيدك ليدلك على الطريق، فتشق انت بنفسك طريقك الخاص لعلك تصل لشيء، لم اشعر بالوحدة قط مثلما شعرت بها في ذاك السن لذلك لجأت لمخيلتي، امسك العاب الطفولة وانشيء بها عالماً خاصاً لكل قطعة منها فيها قصةٌ، دأبت على حياكة القصص بينها والسباحة في بحر مخيلتي حتى بات ذلك طبعاً وعادةً عندي حتى اليوم، قصص وقت اللعب تلك باتت هواية عندي، اسمح لعقلي بالإبحار في بحر الخيال حتى يعود لي حاملاً معه كلماتٍ ادونها عندما اشعر بالوحدة، مثلما افعل الأن، فبينما اسير تائهاً وحدي في المدينة التي نشأت فيها، هاهو عقلي يسير تائهاً في شوارع ذكرياتي، إلى اين نسير معاً؟، لا اعلم صدقاً

الساحة الداخلية لمدرسة يوسف بوكر

متى سنتوقف؟

لا اعرف ايضاً

كل ما اعرفه انني اسير بلا وجهة ولا هدف ظهر يوم السادس والعشرين من شهر ديسمبر، وانني سأكتب ما دار بيني وبين نفسي، ربما ستقرأه انت، ربما يعجبك، وربما لن يفعل، ولا اعرف حقاً اذا ما همني ان يعجبك، فأنا كما ذكرت سابقاُ اكتب للأُنس، لذلك كتبت هذه الكلمات، ولهذا سأكتب مثلها بعد عام.

.26/12/2020

1 view0 comments

Recent Posts

See All

31

30

Comentarios


bottom of page