ربما كانت أكبر كذبات ابريل أن طقسه ربيعيٌ دافيء، مضى قرابة الاسبوع منه حتى الان لكننا هنا في مرسين 10 لم نعرف بعد إذا ما كان الجو بارداً ام دافئاً، ماطراً ام جافاً، قررت الاستاذة انت تنهي الدرس قبل موعد انتهائه بساعة مما جعلني اجوب الجامعة ابحث عن مكانٍ اجلس فيه حتى موعد الدرس القادم، و بين الاشجار بعيداً عن ضوضاء الطلبة و اعينهم المزعجة، تحت اشعة الشمس التي خرجت على استحياء وجدت ضالتي، جلست مفترشاً العشب الاخضر اشرب الشاي و استمتع بالشمس اللطيفة في السماء، قطع عزلتي هذه صوتها منادية لي :
“هاي اهمد”.
في تلك اللحظة وددت لو اني لم اعرفها قبلاً، وليس الامر شخصيا لا قدر الله، و لكن لأنها قد قطعت للتو لحظة عزلة كنت ابحث عنها منذ ايام، رددت تحيتها و دعوتها للجلوس بنية ان ترفض و ترحل، لكن التاريخ لم يحدثنا عن تركيٌ رحل عن شيء عربي دون حربي، جلست و الفرح بعينيها تتأمل فنجاني المملوء، و اعذرني يا نزار لتغيير هذا البيت، كنا نجلس في المنتصف، فوقنا تغرد العصافير و من تحتنا عشب أخضر يكره جلوسنا الذي حرمه من الشمس، حولنا كلاب تمرح و تلعب، و طلبة مكتئبين يتجهون لدروسهم، اختلطت رائحة الطعام القادمة من الكافيتيريا المقابلة، برائحة العشب الذي تم جزه حديثا ليعطيا معا شعورا بالجوع و الانتعاش في وقتٍ واحد، جلسنا نحتسي الشاي، و نتحدث عن امور الحياة، عن تجارب فرويد و باندورو، تحدثنا عن الماركسية و كارل ماركس، عن منظري الرأس مالية و الاشتراكية، عن اصحاب المشاريع الناشئة، عن بيل غيتس و مارك و فوزي شيشة، وفوزي هذا كان طالباً عرفته في المرحلة الاعدادية، انشأ مشروعاً لجمع قنانين البيبسي الزجاجية و استبدالها بأنصاص الفاصوليا (أو انفاص في لهجة غرب ليبيا، أو شطائر في لغة العرب), كان فوزي هذا صاحب اول مشروع ناشيء اعرفه قبل ان يصبح انشاء المشاريع صيحة بين الشباب، حيث وفر مشروعه هذا فرصة عمل لطلبة المدرسة في وقت الاستراحة، عن فلسفة افلاطون و سقراط، تناقشنا في ثورات أمريكا الجنوبية و شرق اسيا، في الاحتباس الحراري و تأثيره على موسم تزاوج القريدس في شواطيء البافانا بافانا، تحدثنا عن كتابات شكسبير و جورج اوريل، سألتني عن اخر كتابات الصادق النيهوم و الفاخري، لم تكن تعرف بأنهما توقفا عن الكتابة بعد ان توقفا عن الحياة، حدثتها عن موسيقى مايكل جاكسون و بوب مارلي و الصافي و فكرون، اسمعتها شيئا من أغاني بوعبعاب و عدوية، عن جيفارا و العيساوي، تحدثنا عن كل شيء و اي شيء.
كنت قد انتهيت للتو من حديثي عن تأثير النازية الجديدة على مجاعة القرن الإفريقي عندما سألتني قائلة :
“متى كانت اخر مرة زرت فيها بلادك؟”
لسببٍ ما تفاجئت من هذا السؤال، لكنني اخبرتها بأنها كانت منذ ثلاثة اعوام،
“لماذا؟”.
بعد هذا السؤال ايقنت بأن هذا الموضوع لن يمر مرور الكرام، و انها ستصر على التوغل فيه أكثر فأكثر، لذا لم يكن هناك جدوى من المقاومة، فقط كان علي ان اتظاهر بالاستمتاع،
“لأنني لا اعرف، لست متأكدا إذا ما كنت قد زرتها حقاً حينها، لم تكن المدينة التي عرفت، بل كانت نسخة ثانية…”
-” لكن ألا تشتاق لها؟”
بكل وقاحة قاطعت كلامي لتسأل سؤالها هذا، و لكنني قد اعتدت هذه الوقاحة فلم اهتم، فقط اجبت على سؤالها قائلا:
” لا اشتاق؟, يعلم الله بكم الاشتياق بداخلي، اشتقت لشاي جدتي، و خبز أمي ، اشتقت الى حوارات أبي، الى عم محمد المصري بائع الخضار المتجول، و الى صوته المنادي على بضاعته في كل ظهيرة، الى لهجته الصعيدية الممزوجة بلهجتنا نحن، الى شوارعنا الطينية في موسم المطر، اشتقت الى الجندي الواقف على ناصية الطريق، الى صراخ اطفال الجيران و لعبهم وقت القيلولة في الباحة المقابلة لمنزلنا، اشتقت الى مباريات النصر، الى مريم التي احببت في الابتدائي، اشتقت الى اجتماعات العائلة، الى جلساتنا في المقاهي و حواراتنا حينها”
– ” و لماذا لا تعود إذن يا اهمد ؟”.
-” لأنه و ببساطة يا سليلة الاتراك لم يبق من كل هذا شيء، لم اعد استمتع بشاي جدتي بعد ان اعتدت عل شايكم هذا عديم الطعم و الرائح، لم تعد امي تخبز، و لم تعد لحكاوي أبي ذات المتعة بعد ان كبرت، رحل عم محمد عائدا الى الصعيد تاركاً خلفه عربته و حصانه و خضاره المغشوشة التي كان يبيع، لم تعد شوارعنا طينية بعد ان سكن في حيينا مسؤول، اما الجندي فقد انتحر بعد ان انتهت الحرب و لم يستطع ايجاد حربٍ أخرى يخوضها، لم يعد الاطفال يلعبون في الباحة فقد كبروا على ذلك، صارو يلتقون بعد العشاء في الشوارع الخلفية يلعبون العاباً محرمة، و قد ردمت الباحة و حل مكانها محلات و سجن لمعاقبة السارقين، و بالرغم من ان صاحب المحلات سارق لكنه ابدا لن يمكث في السجن ليلة، لأن القانون هناك لا يشمل هؤلاء، و مريم قد تزوجت، كذلك عائشة و امل و كل اللوائي احببتهن و كتبت اسمائهن على كل المقاعد الدراسية، ابتداء من الابتدائي وصولا الى هذه الجامعة، اختلفت المقاعد و الأسماء و السنوات لكن النتيجة كانت واحدة، حتى النصر لم يعد كما كان بل صار لعبه مملا شبيها بلعب الاهلي ب، انها احدى الحالات التي تشتاقين فيها لأشياء لم تعد موجودة، و الافضل ان ننهض الان قبل ان يمنعنا هذا الاستاذ من الدخول”
Comments