top of page

ليلة هادئة في قبرص

ahmedobenomran

ليلة خميس هادئة في إحدى مدن الجزء الشمال من جزيرة قبرص، قاربت الساعة منتصف الليل، الجو كان ربيعيا بامتياز لجعلها ليلة انتهاء الشتاء، في أحد الشوارع الخلفية عمارة سكنية كانت كل اضوائها مطفأة، الا اضواء ثلاث شقق, الشقة الاولى يسكنها شابان أحدهما قد عاد للتو من الخارج، دخل فرحاً يبحث عن صديقه و رفيقه في السكن، يناديه متلهفا فيجيب الثاني من غرفته، يدخل الاول مسرعا قائلا فعلتها فعلتها، يحاول زميله تهدئته و فهم مالذي يجري، يجلس الاول و تعابير الفرح تعلو وجهه، و يبدأ حديثه قائلا :

” لقد كنت معها، وجدتها في طريق عودتها من الجامعة، فاقتربت منها و بدأنا بالسير معا، امضينا الطريق في الحديث عن الدراسة و هذه الامور، وددت لو أن الطريق تطول اكثر فأكثر حتى لا تنتهي هذه المتعة، استمتعت بكل خطوة خطينها معا، هل جربت من قبل أن تشعر بأنك لا تمشي بل تطير فرحا، أن لا تكون اقدامك هي من تحملك بل قلبك، لقد ايقنت في منتصف الطريق انني معجب بها، و اني قد وقعت في شباكها كبعوضة علقت في شباك عنكبوت في ركن الغرفة, للمرة الأولى احزن كثيرا لدخولي شارعنا، فأنا لم ادري اذا ما كنت سألتقي بها ثانية ام لا، هذه الصدف أشبه بظهور قوس قزح، انت لا تعرف اين ستراه مرة اخرى، لذلك قررت الا اجعلها قوس قزح, قررت أن اجعلها شمسي التي تشرق علي كل يوم، أوقفتها عند مدخل العمارة، صمتت لبضع ثوان لأنني لم اعرف من اين سأبدأ، نظرت في عينيها و اخبرتها بكل شيء، بحت بكل مشاعري لها، كنت اود أن أقول اكثر لكنني صمتُّ مرة أخرى، هذه المرة كنت متأكدا مما سأقوله، لكن نظرات عينيها جعلتني اتوقف، مرت هذه الثوان كأنها سنوات، مازحتني بحياء قائلة اخيرا نطقت، و ببضع كلمات عبرت لي عن مشاعرها ثم دخلت و تركتني أمام العمارة مذهولاً كليبيٍّ يرى منتخب بلاده يتأهل لكأس العالم، حينها لم اعرف اذا ما كنت احلم ام أن ما قد حدث للتو قد فعلا حتى وجدتني هناك امامك”.

اسفل تلك الشقة، في الشقة الثانية التي تسكنها فتاة في العشرين من عمرها صحبة جدتها، كانت الفتاة قد دخلت منذ خمس دقائق، وقفت خلف باب الشقة المغلق طوال هذه المدة تتذكر ما حدث للتو، تتذكر ما يبدو و كأنه قصة حب تدور بين مراهقين في أحد شوارع السلماني أو الكيش ربما، عندما احب محمد جارته فاطمة حين كان يتوقف أمام مدرستها منتظرا خروجها، تشعر بنبضات قلبها المضطربة، لو انها عربية لربما كانت تغني (اخيرا قالها), قطع لحظات وقوفها هذه امر غريب، شيء ناقص، لما تسمع صوت نداء جدتها كما جرت العادة حين عودتها، نادت جدتها مرتين لكن أحداً لم يجب، دخلت الفتاة مسرعة نحو الغرفة، دقات قلبها ما تزال متسارعة لكن هذه المرة كانت بدافع القلق، دخلت الغرفة لتجد جدتها نائمة على كرسيها، نادتها مرتين لعلها تستيقظ، لكن لم تفعل، تقدمت نحوها ببطيء و في كل خطوة كانت تناديها، حاولت هزها، وضعت يدها على جبين جدتها لتجده بارداً، نظرت نحو صدرها فوجدته ساكناً لا يتحرك، قضي الامر اذن، لما تعد جدتها من الاحياء، حاولت هزها مرة أخرى بقوة اكبر، و لكن الاوان قد فات، جدتها قد نامت نومها الابدي، لم تشعر بدموعها الساخنة تنزل من عينيها على خدها، فقدت كل الاحساس، ضمت جدتها و استمرت في مناداتها بحرقة، لكن الجدة لن تجيب اليوم، ضمت رأس الجدة الى صدرها لتختلط حرارة الدموع ببرودة الموت، الموت هذا الحدث الاليم الاساسي في نهاية كل حياة، تذكرت الحفيدة كل لحظاتهما معاً، تذكرت عندما كانت جدتها تضمها حين تراودها الكوابيس في طفولتها، و اليوم هي تضم جدتها في اروع كابوس يراود الانسان، كان المنظر في الغرفة مؤلماً، الجدة تجلس على كرسيها بدون روح، و الحفيدة جالسة امامها لا تدري ماذا تفعل سوى البكاء.

في الشقة الثالثة الملاصقة لهما، كان يقف على النافذة و قد استمع لكل ما يدور حوله من قصة جاره فوقها، الى فراق الجدة بجانبه، كان يتذكر تلك المرات التى رأى فيها جاره يسترق النظر نحو محبوبته، نحو جارتهم، تذكر كل المرات التي طرقت الجدة بابهم و قد ارسلت لهم طبقا ما، لم تكن الاطباق شهية جدا، ولم تكن مألوفة بالنسبة له و لزملائه في السكن، لكنها كانت قد اعدت بحبٍ و دفء، و لقد اشتاقوا هم لهذا النوع من الاطباق، قد يقف يشعر بالفرح لجاره و يفكر في إذا ما كان قادراً على اسعادها، و يشعر بالحزن على جارته التي فارقت الحياة، و على حفيدتها التي فقدت للتو شخصاً عزيزاً على قلبها، لقد كانت احدى تلك الليالي التي سيطرت عليه فيها قوة ما، هو كان مؤمنا بأن السبب هو الاكتائب، اما طبيبته النفسية فقد رأت ان السبب هو اضطراب القلق، و لهذا توقف عن رؤيتها، لأنها لا تعرف شيئا عنه،

“لا أحد يعرف شيئاً عني”

قالها هامسا لنفسه،

” يعتقدون بأنهم يعرفون لكنهم واهمون، اذا كانوا يعرفون فلماذا يستمرون في ايذائي اذن؟ اعني اين هم الان ها انا اقف لوحدي؟ ترى هل سيطول الامر هكذا متى سينتهي كل هذا؟ اخشى انه لن ينتهي، لقد بدأ كل هذا منذ عشر سنوات و هو مستمر الى الان، لقد كان ما فعلته حينها ساذجاً، كان علي تجتب فعله، لكنني كنت مراهقا حينها، و لكن كان يجب على ان احسب عواقبه جيداً، ليس ذنبي انهم هكذا، ام تراه ذنبي و ليس ذنبهم، لا لا لا، ليس ذنبي ابدا، فانا حاولت جاهدا، ربما لم احاول بما يكفي! اعني هم لم يطلبوا مني شيئا، هم فقط قالو غير من نفسك، و قد تغيرت حتى نسيت من اكون، يا الهي مالحل؟”

” هل تراني ارمي نفسي من هنا لينتهي كل شيء، هكذا سيحزنون علي و يهتمون بي، حينها سأكون قد نلت القليل من الانتباه و الاهتمام حتى و إن كنت ميتاً، و لكن ما ادراني بأنهم سيحزنون أو يتألمون، في الانتحار يتألم المنتحر لأنه يعلم بأن هذا اخر قرارٍ يتخذه، و تتألم اداة الانتحار لأنها لم تكن تريد المشاركة في هذا، الأداة الجامدة تشعر بالمنتحر اكثر من اقرانه من البشر، فالسكين يشعر بقطع الاوردة و جرح صاحبه اكثر من الذين جرحوه، و الارض تشعر بسقوطه عليها اكثر من الذين دفعوه، كل طرق الانتحار تشعر بالمنتحر، و باختلاف الطرق يضل سبب الانتحار الرئيسي واحداً، البشر”.

توقف عن الحديث للحظات، اخذ هاتفه المحمول، دخل إلى الفيسبوك و بدأ بثا مباشراً سماه (قررت الانتحار), بهذه الطريقة ظن انهم سيتألمون، ظن انهم إذا ما شاهدوه ينتحر فإن صورته ستظل امامهم للأبد، و انه سيلاحقهم في كوابيسهم، انتظر قليلا حتى بدأ الناس بالدخول، يلقى بعضهم النكات، يمزاحه بعضهم في التعليقات، و مع كل نكتة و تعليق، كانت رغبته في الانتحار تتزايد، كان يهم برمي نفسه حين دخلت هي، ربما هي فقط التي ستثنيه عن قراره هذا، انتظرها لتقول شيئاً، جائت منها رسالة، دخل قلبه قليلٌ من الفرح،

“توقف لا تنتحر، فالانتحار ليس سوى هرب من المشاكل، كفاك دلال و لفت انتباه”.

كان الفارق بين قرائته لاخر كلمة و بين رمي نفسه مجرد اجزاء من الثانية، في أثناء وقوعه بدأ بتذكر كل شيء، ارتطم بالارض، شعر بكسر عاموده الفقري، و سمع تحطم كل عظامه، ايقن ان الفارق بينه و بين الموت مجرد ثوانٍ، تأكد ان الموت في طريقه نحوه، اغمض عينيه مستسلماً و قال مخاطباً الموت :” تعال بسرعة فإني اطير مع النجوم”، و رحل بعدها، و انتهى كل شيء حتى البث المباشر, جثته مرمية على الارض، اصوات بكاء جارته و أغاني جاره الفرحة ما تزال مسموعة، كل هذا كان في ليلة هادئة في قبرص.

3 views0 comments

Recent Posts

See All

31

30

Comments


bottom of page