top of page

في حضرت مولانا البحر

ahmedobenomran

في حضرت مولانا البحر

سكرانٌ مترنح ثقيلةٌ خطاه يمشي، بل يكاد يكون يحبو، يترنح ذات اليمين و ذات الشمال حتى بدا كمن تجذبه الارض و تدفعه، يمشي متعرجاً يقصد البحر في ليلة شتوية باردة، توسمت السماء بالقمر و قد صار بدراً ، و دب الناس في الطريق ازواجاً و جماعات، و بضعة افرادٍ يسيرون كأنهم تائهون لا يعلمون اين وجهتهم ، لا تهم الوجهة ابداً حينما تكون وحدك فكل الطرق تؤدي الى مزيدٍ من الوحدة.

ظل يمشي حتى باتت بضع خطواتٍ تفصل بينه و بين البحر،

بضع لحظات يحاول فيها ان يوازن نفسه

يعدل هندامه

تنحنح قليلاً ثم شرع في الحديث كمن يخطب وسط الجموع

“اعترف انني اجلس في حضرتك و قد لعب السكر بدماغي حتى فقدت كل احاسيسي، لكن الذنب ليس ذنبي ابدا لم يكن هذه المرة…

قصدتك مِراراً حتى تغسلني لكنني لم اجد الا مراراً يضاهي ملوحتك، يا مولانا البحر اعذرني و اعطنِ من احشائك مغفرة كما اعطيت صياداً وقف ببابك طمعاً في رزق.

انني اذ اجالسك اليوم فإنما افعل ذلك مرغماً كما وقفت قبلها مراتٍ و خيبت ظني، لكن مازال بداخلي رجاء، انت الذي جلس عندك كل المحبين و المقهورين و المفقورين و الملعونين، انت من يقصدك المطردون اذا ما يوماً طردتهم الارض كأبٍ يطرد ابنه غير الشرعي، فتكون سبيلهم الى الحياة او مستقرهم الاخير .

اني يا مولانا اشكيك طفلتي التي كبرت حتى لم اعد اعرفها، تغيرت كثيراً حتى صارت مثلك، متجددة مع كل موجة تقلب مياهك ، لم تعد طفلتي تلك التي احببت حد العشق و الوله، كبرت الطفلة التي عشقت برائة عيناها اللائي وجدت فيهما ذاتي التائهة، وجدت فيها ربيع الشبابي الذي ضاع مذ كنت طفلاً ،واذ بالبراءة تختفي و تهجرني كهلاً يفصله عن الموت ما يفصل بيني و بينك الان، لقد صارت تلك الطفلة مراهقة و احسبك تعلم مقت الشيوخ مثلي للمراهقين ، و انا يا بحرُ عجوزٌ هرم اصابته الشيخوخة و العجز فلم اعد قادراً على التأقلم مع تغيراتها ، تعبت من محاولة الامساك بها كطفل اصابه الاعياء بعد ان حاول مراراً و مراراً الامساك بعصفورٍ صغير ، كلما اقترب الطفل طار العصفور مبتعداً قليلاً.

فها انا ذا انظر لحالي و اقبل شكاوي او ابقها في احشائك سراً لا يعلم عنه احد كما احتويت كل تلك الاحياء دون ان يعلم احدٌ عددها”

ساد الصمت الشاطيء كأن الحياة قد ماتت حوله، لحظاتٌ و امتدت موجة معلنةً قبول الشكوي، فاقترب السكران قليلاً وحيداً بخطواتٍ مترنحة يكاد يسقط مع كل خطوة يخطوها ، حتي صارت المياه تغمر نصف جسده، و بدأت الجلسة.

بدأت الجلسة التي كان البحر قاضيها، القمر قد اجتلس السماء بصفته اكبر المستشارين و قد تحلقت حوله نجومٌ بعضها من هيئة المحلفين و بعضها حضورٌ اراد ان يشهد هذه الجلسة، علا صوت البحر قائلاً : ” الم تمل من الحضور الى هنا؟ ”

فاجاب صاحبنا و قد صار المدعي هنا : ” لم تمل همومي مني، و مدام هناك همومٌ فهناك شكوى، و مدام هناك شكوى فلابد من و جود قاضٍ ، و لم اعهد غيرك قاضياً و لهذا جئت “.

عاد البحر للحديث بصوته الجهوري الممتزج بالدفئ : ” و ما اصابك هذه المرة ؟”

– ” طفلتي يا مولانا ”

قاطعه البحر :” اليس لديك شيء ٌ اخر عدا هذه الطفلة، الم تمضِ ليالٍ تجلس ببابنا ترجو ان تكون لك، فحدث ذلك عندما جلست هي على شاطئي فاقنعناها بذلك”

-” حدث ذلك يا مولانا و قد جئتك بعد ذلك ارجو ان تغير رأيها بعد ان صرت اخشى على ذاتها الطفولية من ذاتي الهارمة ”

-“و قد قبلنا رجائك ذاك هو الاخر، فأين المشكلة ”

صمت صاحب السكر قليلا ثم عاد للحديث بصوتٍ يملئه الحزن :” المشكلة يا مولانا بأنها تغيرت لم تعد ذات الطفلة التي عرفت، كل ما فيها اصابه التغيير، ”

-“الا تعلم ايها السكير بأن التغيير صفة من صفات الحياة و ان الكبر آفة من آفات بني الانسان، ان طفلتك قد كبرت، و هذا مصير كل شيء، فمالذي يدفعك للشكوى”.

قال الرجل بتوسل:” مولانا البحر، اني رجل كهل خرف، سئم الحياة وحيداً، رافقت الوحدة دوماً حتى صار حلمي ان اجد رفيقاً واحداً يبكيني على قبري، و قد وجدت هذه الطفلة، فعشفتها و العشق غريزة عندنا لا مفر منها فلماذا احاسب على هذه و تكون المعاناة مجازاتي ”

-” لأنك لم تعشقها بحريتها، بل اردتها ان تكون كعصفورٍ تضعها في قفصٍ سالباً منها رغبتها في ان تكون طيراً حراً”.

“نعم، و لكن.. ”

زاد صوت البحر علواً و بدأ الغضب يكسوه : ” دون لكن، لم تُخلق خطيئة تضاهي سلب الحرية فهذا تطاولٌ من سكان الارض على خالقها، و لهذا كان جزائك من جنس عملك. ”

-” يا سيدي ان القفص الذي اردتها فيه هو قفص حبي، و قفص المحب فضاء رحيب”.

زمجر البحر معلناً وصوله اقصى درجات الغضب حتى ارتعد كل الحضور خوفاً:” ليس في الحب اقفاص، فالحب حرية قبل ان يكون اي شيء اخر ….رُفِعت الجلسة للتشاور.”

صمتٌ مهيب جعل الدقائق الخمس تمر كأنها سنوات على صاحبنا و كل الحضور، الجميع يعلم بأنه اذا ما غضب البحر بهذه الطريقة فالعواقب لا تكون حميدة.

عاد البحر ليقول:” الم يكن حلمك ان تجد رفيقاً؟ ستنال اليوم رفاقاً لا واحد. ”

ابتهج الرجل و علت الابتسامة وجهه

فاستدرك البحر قائلاً :” كُتب عليك اليوم ان تفنى هنا و تلقى الموت حيث انت و هناك ستجد رفاقاً لك قد سلبت حياتهم قبلك، لتكون غذاء للمخلوقات الصغيرة بداخلي حتى يتذكر من يأتِ بعدك بأنكم مهما عظمتم فلستم اعظم من كائنات صغيرة تتغذى على اجسادكم الميته، انها دائرة الحياة، تخرج من اجساد السيئين منكم كائنات تساهم في ابقاء الحياة “.

صُعق الرجل حتى عجز عن الحديث، دفعته موجة من الخلف فاسقطتها غريقاً و تكفلت ثمالته بمنعه عن السباحة ، حاول المقاومة و لكن دون جدوى، فاستسلم للقدر مغصوباً وطفح جثة هامدة على السطح دفعتها الامواج داخل البحر حتى لا يجد احدٌ جثته فيدفنه، سُلب من حق الدفن كما فكر يوما ان يسلب حرية احدهم.

4 views0 comments

Recent Posts

See All
31

31

30

30

Comments


bottom of page