top of page

فات الحداش طاش

ahmedobenomran

“فات الحداش طاش”

سمعتها لأول مرة في حياتي عندما قالتها جدتي لأمي وهي تنظر نحو القمر وقد كان أحدباً جالساً في السماء، بينما كنا نحن نجلس في مطعمٍ على ضفاف البحيرة في تونس وقد انهينا للتو إفطارنا الأول في تونس في اليوم الحادي عشر من شهر رمضان لعام 2012، رمضان ذاك الذي صمت قرابة نصفه في بنغازي، أمضيت نصفه الثاني في تونس مرافقين جدي في رحلته العلاجية، وقضيت عيد فطره في قاهرة المُعز، سألت جدتي عن معنى ما قالته للتو فقالت لي بأنه قولٌ اعتاد الليبيون على قوله في رمضان، وقصدهم أن بأن أحد عشر يوماً في رمضان تمُر بطيئةً رتيبةً هادئة، ولكن ما أن يبدأ الثلث الثاني من الشهر حتى تبدأ أيامه في التسارع بجنون وكأن الشهر صار طائشاً يجري بسرعة

” بعد بكرة كبيرة النص بعدها غمض عين وافتح عين تلقى كبيرة العيد قدامك”

ظلت هذه الجملة تتردد إلى ذهني كل رمضانٍ بعد ذلك، أفكر فيها اول ايام الشهر، وأظل بعد ذلك أعد الايام منتظراً للحادي عشر منها، لكن الأمر اختلف في هذا العام، ظلت الجملة تزور تفكيري كل يومٍ تقريباً أذكر منها إحدى ليالي الثلث الثاني من رمضان، حينما بدأ الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي في التردد على شوارع المدينة، الإنقطاع المفاجئ الذي صار ضيفاً يأتي كل صيف، وصار كل أهل المدينة يعرفون أسبابه ويعرفون بقدومه بعد كل هذه السنوات، لكنه ظل مفاجئاً للشركة العامة الكهرباء، كنت ليلتها قد خرجت من المقهى الذي نجلس فيه كل ليلة، سلكت عددً من الشوارع الفرعية هرباً من “زحمة العيد”، توقفت منتظراً الإشارة المرورية، سرحت بخيالي متذكراً ما قالته جدتي قبل أن تسحبني ذاكرتي لأفكر في رمضان ذاك كله، كان طائشاً بحقٍ بين ثلاثة دول، تغيرت بنغازي كثيراً منذ ذلك الحين، توسعت المدينة بشكلٍ كبيرٍ وسريع كأنه توسعً طائش، كأن المدينة بعد الحداش طاشت فعلاً، لم يكن هذا الشارع عن يميني موجوداً، كنا اذا نريد نصف لأحدهم طريق بيتنا نبدأ من جامعة العرب الطبية خلفي، بدأت حركة العمران في الطريق الدائري الرابع ثم صارت شيئا فشيئا تكبر حتى صار هذا الطريق شارعاً تجارياً صغيرا، سافرت لقبرص التركية عام 2015 وقد كان هذا الشارع مغلقاً بسبب الحرب، عدت بعد اربع سنوات لأجده أكبر بكثيرٍ مما تركته عليه حتى كدت لا اعرفه، محلات ملابس ومطاعم ومستشفى ومصرفٌ مركزي كلها بُنيت بعشوائية، كلها بُنيت بطيش، لم تغب عني جملة جدتي تلك عندما كنت في قبرص، لكن رمضان في قبرص لم يعرف الطيش، فحياة المدينة هناك في رمضان لا تختلف عن غير رمضان … قطع تفكيري شعوري بعيونٍ تراقبني، التفت يميني فجائت عيناي في عيني فتاة تركب سيارة بجانبي، أشحت بنظري عنها متأملاً أن أعود لبحر ذاكرتي لكن الإشارة كانت قد اخضرت فاستئنفت رحلتي قاصداً بيتنا.

منذ تلك الليلة صارت ذاكرتي تسحبني في كل مرة أتذكر فيها جملة جدتي لأفكر في بنغازي وما كان يدور في بنغازي كل رمضان، أحاول تذكر كل شارعٍ أمر به قبل أن تغيره كثرة المحال التجارية فيه، أتذكر طقوس رمضان، أذكر أنني عرفت بقدوم شهرٍ يدعى رمضان لأول مرة في حياتي عندما كنت طالباً بالصف الثالث الإبتدائي، لم أكن حينها قد عرفت بمعنى الصيام بعد، بدأت بعد ذلك شيئاً فشيئاً محاولتي للصيام، تبدأ كطفلٍ في صيام نصف يوم، تحاول بعد ذلك أن تصوم بضعة أيام كاملة، ثم ودون أن تدري تجد نفسك قد صمت الشهر كاملاً، أذكر أن رمضان حينها كان يأتي بعد وقتٍ طويل، صارت المدة بين عيد الفطر وشوال تقل تدريجياً بعد أن صرنا مراهقين حتى صار رمضان يأتي ونحن نشعر بأن العيد كان منذ اسابيعٍ فقط

“فات الحداش طاش”.

أتذكر جيداً علامات حلول رمضان في شوارع بنغازي سابقاً، لو عدنا بالتاريخ لعام 2010 مثلا، كانت طاولات ومحال بيع الزلابية ونوعٌ آخر من الحلويات سأتجنب ذكر اسمه احتراماً لسكان الجزء الغربي من البلاد، كانت هذه الطاولات والمحال تنتشر في شوارع بنغازي في رمضان فقط، كأن هذا النوع من الحلو لا يجوز تناوله إلا في رمضان تماما مثلا حلوى يوم المولد النبوي، بدأت هذه الطاولات في الإنحصار والإندثار حتى كادت أن تختفي تمام، كنا حينها مراهقين لا نشعر حقاً بمشقة الصيام، ننام أغلب ساعات اليوم، نستيقظ قبل المغرب بسويعات ونسمي ذلك صياماً، كل شيئاً حينها كان رتيباً، كبرنا اليوم فجأة ولم نشعر بذلك، ربما أخر ما نتذكره هو أننا كنا نترقب العشرين من عمرنا عام 2011، ولكن كل شيءٍ بعد ذلك مر وكأنه ثوان حتى صرنا نطالع صورنا القديمة ونتسأل “من هولاء ومالذي حدث لهم؟”

مر الوقت دون أن نشعر

نضج الكل إلا نحن

كبر من قبل

كبر من بعدنا

أما نحن فصرنا أطفالاً في أجساد بالغين

“فات الحداش طاش”

قلتها و أنا أطالع البدر في السماء منتصف الشهر بينما كنا نجلس في أحد مقاهي بنغازي، المتنفس الوحيد لشبابها، أيتام الأحلام والأمال، قبل عشر سنواتٍ من الأن ربما كانت أحلامنا أكبر منا، ربما كنا نحلم بأن نكون الأفضل في مجال عملنا المستقبلي، ربما كنا نحمل في حقائبنا الدراسية أحلاماً لم ندرك حينها حجمها، اليوم بعد أن ذهبت تلك الحقائب وصرنا نحمل في جيبونا الضيقة هواتفاً ومفاتيحاً وربما علب سجائر، لم تعد جعبتنا تسع كل تلك الأحلام فتقلصت حتى صارت صغيرة بسيطة بالنسبة لغيرنا،

أن أنهي دراستي

أن اسافر

أن أتزوج

ربما كنت قبل عشر سنوات أحلم بأن أكون كاتباً رغم أنني لم أتقن الكتابة حينها، فتح لي أحدهم شُباكاً على شارع التدوين، كان الشارع حينها خالياً نظيفاً منظماً،

كتبت

نشرت

حذفت

فكرت

حتى تمكنت من الخروج إلى هذا الشارع، لكنني وجدته بعد سنوات قد صار عشوائياً فوضاوياً لا أعرف فيه أحداً، تماماً كشوارع بنغازي، على جانب الطريق عشرات الباعة المتجولون يفرشون كلماتهم الرديئة على الأرض يبيعونها للمارة،

كلمات حبٌ ترسلها لحبيبة قلبك

قصصٌ للزينة

أفلام رعبٍ مسروقة جودتها ضعيفة

أغلق صاحب الشباك شباكه وصار قليل الفتح

صار للكاتب والقارئ صورة نمطية، يتحدث بطريقة معينة، يمشي بطريقة معينة، يضحك بطريقة معينة، حتى انهم اختاروا طريقة يجب ان يحب بها، ولا شيء في ذلك كله حقيقي ككتاباتهم

ولا استثني نفسي من ذلك

فها انا بعد عشرة سنوات مازلت مبتدئاً في عالم الكتابة هذا، أجرب في كل مرة شيئاً

في رمضان 2015 كتبت عن الحب ذات مرة

صدق الكل ما كتبته واصروا على معرفة صاحبة البراد

وصدقت انا نفسي بعد إصرارهم حتى صرت ابحث معهم عنها

في رمضان نفسه كتبت مرشد سياحي

ذاك الذي كان يحدث الناس عن بنغازي ويدلهم فيها

بنغازي نفسها التي صرت تائهاً في شوارعها وبين ناسها

تبلغ تهريس من العمر ستة سنوات ولا أعرف صدقاً مستقبلها

فهل ستطيش هي الأخرى بعد الحداش؟

“فات الحداش طاش”

مرة أخرى تحضر هذه الجملة لتفكيري

كنت حينها عالقاً في زحام العشرة الأواخر رفقة والدي، شحيحة هي المواضيع التي اتحدث فيها مع والدي تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، لكن أفضلها سيكون دوماً حديثه عن بنغازي التي وُلد فيها منتصف اربعينات القرن الماضي، أتعمد في كل مرة أنفرد به فيها سؤاله عنها لعلي أتمكن من رؤيتها بعينيه، بدأت حديثي ذلك اليوم بسؤالي عن سكان “حوش سليمان بن عمران”، يبدأ والدي بالحديث عن بيت جده الذي سكنه أعمامه وجدي، ينقل لي قصص أعمامه علي، رجب، مصطفى، محمد وحمد، يخبرني كيف أصبح جدي حمد فجأة بدون أخوة لفترة بعد أن غاب علي ورجب رفقة المجاهدين و ابتعادهم عن بنغازي بعد صدر في حقهم حكمٌ بالإعدام، وكيف انتقل مصطفى ومحمد للعيش في معتقل العقيلية الذي أقامه الطليان للترفيه عن سكان هذه الأرض، يبدأ والدي في الحديث عن المساجد والشوارع وقاطنيها،

عن زيارته لبيت عمه مفتاح بالقرب من سور بنغازي القديم

تقف لليوم بقايا هذا السور عند مستشفى الجمهورية

بنُي هذا المستشفى أيام الطليان وظل واقفاً يقدم الخدمات لسكان المدينة بعد أن رحل المستعمر، وُلد أغلب سكان المدينة في هذا المستشفى، قبل أن يتم هدمه و إغلاقه لغرض الصيانة منذ بضعة أيام، وماتزال أرض المستشفى خالية ليومنا هذا

خلف السور كانت زرايب العبيد وزرايب العجيلات، وهي أكشاكٌ عشوائية كانت تضم مجموعة مِن مَن جاؤوا لبنغازي، هكذا كانت بنغازي تضم خليطاً مِن مَن أوصلهم القدر إليها، هكذا كانت بنغازي بسكانها و غازيها واخريبيشها (سيدي غازي واخريبيش)، قبل أن يحاول البعض نسب بنغازي بما فيها من بيوتٍ وشوارع وأزقة لقبيلته،

يحدثني والده عن عماته وما مرن به، يتحسر على عدم تسجيله لحكاوي عمته جازية التي رأتها في بنغازي و في معتقل العقيلية، عن ابن عمته سي عقيلة كدوم رحمه الله، وسي عقيلة هذا ابن عمة والدي فاطمة، فاطمة سليمان بن عمران، التي بعد أن تزوجت ورزقها الله بعقيلة، جائت إحدى العجائز لتخبرهم بعدم جواز هذا الزواج، ففاطمة بن عمران وحمد كدوم اخوة بالرضاعة، عادت فاطمة لبيت أهلها، ونشأ عقيلة بين أخواله وأبنائهم، يبتسم والدي قبل أن ندخل شارعنا، أعرف جيداً سر ابتسامة في كل مرة نتحدث فيها عن ابن عمته، كان سي عقيلة قصيراً هزيل الجسد كثير الأمراض، لهذا عندما تم طلبه للتجنيد من قبل الطليان لم يجد جدي حرجاً في أخذه للفحوصات، فالنتيجة معروفة مسبقاً، قصير القامة شديد النحافة، أي شخصٍ سيخبرك بأن هذا الشخص غير لائق للعسكرية، وقف جدي خارج غرفة الفحص مرتاحاً لمعرفته بالنتيجة، لكنه نسي بأن ابن أخته هذا يجيد العربية والإيطالية حديثاً وكتابة وماهي إلا لحظات حتى خرج سي عقيلة من غرفة الفحص وفي يده الملابس العسكرية، هنا نظر له جد وسأله متفاجئاً

“يا وليدي ماخطرلك تصح إلا اليوم؟”

ينتهي حديث والدي عند وصولنا للمنزل وأنا كلي يقينٌ بأنه إذا ما دار هذا الحديث في بيتنا لكنت الأن أنظر لكل الصور والملفات التي يحتفظ بها والدي.

منزل سليمان بن عمران الكائن بشارع بن عمران سي اخريبيش/بنغازي

فات الحداش طاش

هذه المرة أتذكر قول جدتي بينما كنت اسير رفقة صحبي في شارع الشريف صباح يوم عيد الفطر بعد أن تجمعنا عند ضريح عمر المختار، شيخ الشهداء هذا اللي أتعبه الليبيون في مماته بنقل رفاته أكثر مما أتعبه الطليان في حياته، في هذه المرة كنت أنظر للأبنية المهدمة حولي في شارع الشريف، قبل عشر سنواتٍ كان هذا الشارع والشوارع المحيطة به تعج بالبشر، كان سوق الجريد في هذا الشارع من أسواق المدينة القديمة والشهيرة، كان شارع عمرو بن العاص و شارع العقيب و فياتورينو من شوارع المدينة التجارية، ذهب كل هذا اليوم وصار أثراً بعد عين، تغيرت المدينة كثيراً، لم يكن فيها كل هذا الدمار في وجوه أهلها، لم تكن موحشة مثلما هي عليه الأن، لم يكن في المدينة كل هذه القسوة، قبل عشر سنواتٍ لم يكن مهند هنا، ومهندٌ هذا شابٌ صغير من مخيمات تاورغاء يبيع خبز التنور الذي تعجنه حناه (جدته) طيلة شهر رمضان في المقهى الذي يعمل به نادلاً

أتراك طشتي بعد الحداش يا بنغازي؟

41 views0 comments

Recent Posts

See All

31

30

Comments


bottom of page