ديسمبر المُظلم كثيف الغيوم قليل الشمس حتى تكاد تكون معدومة، تعج سماء المدينة بغيومٍ ماطرة تحجب الضوء، تحلق تحت غيومها سربان الغربان مضيفة السواد للسماء.
يستيقظ سند من نومه بعد ليلةٍ لم ينل فيها النوم الذي يريد، يبقى في سريره للدقائق يفحص فيها هاتفه
بضعة رسائل من والدته
محادثاتٌ نام في وسطها
يرمي هاتفه ثم يتجه للحمام يتجهز للخروج
تكون اخته قد فرغت من تحضير إفطارٍ صغيرٍ له، تعرف أنه لن يأكل ربعه حتى، يخرج من الحمام والماء يتساقط من شعره القصير، يتناول شيئاً بسيطاً من الإفطار، يرتدي ملابسه، ثم ينزل متجها لسيارته، يعيش سند في الشقة وحده مع أخته الأرملة وبناتها، سند هو سابع الأبناء وثاني الذكور، يفصل بينه وبين أخاه الاكبر -الذي يسكن في شقةٍ تحتهم- خمس بنات، بالرغم من كونه الاصغر، إلا أنه لم يتصرف يوماً على أنه كذلك، ربما كانت قساوة أخيه عليه سبباً في ذلك، كبر الطفل بسرعة، وضع على عاتقه المسؤولية صغيراً، عُرِف بذلك منذ الصغر وسط الحي، فكان حاضراً في كل مناسبات أهل الحي، الفرح منها والعزاء حتى بات من شبه المستحيل أن تجد بيتاً في الشارع لم يدخله معيناً لأهله، بالرغم من هذا، فلم يخل سند من شقاوة الأطفال وشغبهم، التحق سند بالمدرسة القريبة منهم، في ذلك اليوم، وبينما كان أغلب الأطفال في يومهم الأول يبكون في صمتٍ أو بأصواتٍ متقطعة كفرقة أوركسترا، وقف سند متكئاً على جدارٍ ما في هدوءٍ تام، عند دخولك لساحة المدرسة في ذلك اليوم، ستلحظه سريعاً، كما ستحلظه وتميزه عن بقية الأطفال خارجها، ستلحظه و سيصعب عليك نسيانه بعد ذلك.
كانت جازية في ذلك الوقت تنهي حزم حقائبها مستعدةً للسفر، عائدة لعملها، يصعب القول هنا بأنه عائدة لمدينتها حيث لم تشعر جازية بارتباطٍ يجمعها بمكان، هي التي وُلدت في مدينة، نشأت في مدينة، وتعيش في مدينة، كيف لها إذن أن تنتمي لأرض؟، لم تنم جيداً في الليلة السابقة رغم أنها حاولت، تفكيرها في حقائبها وفي رحلة الغد أبعد بعض النوم عنها، بينما تكفل حزنها بإبعاد ما تبقى منه، جاءت جازية هنا بعد أن توفي قريبها، وفاةٌ جعلتها تفكر في الموت كثيراً، يقال بأن للحزن في الموت رحلة لا تكتمل إلا بتأدية طقوسه، ربما لهذا السبب شعرت جازية بغرابة الموقف، هي التي لم تستطع المشاركة في خروج جنازة قريبها، لم تره في نعشٍ، ولم تر قبره، كيف لها أن تقتنع بأنه مات بسهولة؟ تكمل جازية تجهيز حقائبها وبداخلها ذلك الشعور الدائم بأنها نسيت شيئاً، وبالرغم من أنها نسيت بضعة اشياءٍ في مراتٍ سابقة، الا أنها لم تنس يوماً وضع أحلامها معها أينما ذهبت، فجازية اصغر اخوانها، شهد لها كل من عرفها في المدن الثلاثة وخارجها، بأنها كانت طموحة، حالمة، متفانية في عملها، يشهد بذلك القاصي والداني.
بداية النهار، تقف الغربان على سور مدرسة ناظرة للبحر، يعلو الموج قبل أن يهوي مرتطما بالحجارة صانعاً صوتا كالزمجرة، تنظر الغربان نحو الأفق في صمت.
تفصل بين سند وجازية مئات الكيلومترات وعشرون يوماً، وتجمعهما ذات البلاد وما هو أكثر من ذلك، ترك سند الجامعة دون أن يتخرج منها، وجد نفسه يرافق أهله راحلاً معهم تاركاً خلفه بيته وشارعه ومدينته، استقروا جميعاً، في مدينة أخرى أسسوا لنفسهم هناك حياةً أخرى، شمر عن ذراعيه وبدأ في العمل مع شقيقه، اعتاد سند منذ مراهقته على كسب مصروفه بنفسه، تجده إذا ما حل رمضان يقف على طاولة يبيع ألعاب الأطفال، وإذا ما حل الصيف تجده يعمل مع أبناء جيرانه في معرضهم، يصعد سند سيارة قريبه متجهاً بها للعمل، ترك سيارته في مدينته الأم بعد أن أوصل بها والديه وعاد إلى هنا بالطائرة، يخطط في هذه الأيام العودة إلى هناك حتى يعود بها وبوالديه، منذ سنوات، اعتاد هو على أخذ والديه لقضاء عيد الأضحى هناك رفقة أعمامه، يعود تاركاً إياهم هناك لبضعة أشهر، منذ مدة ترك هناك سيارته أمام منزلهم ينوي العودة لها، وقف سند ذاتٍ يوم في ذات المكان التي تقف فيه السيارة اليوم رفقة صبيان الشارع مستظلين بشجرة، كان والده حينها قد سافر لتونس في رحلة علاجية لم تكلل بالنجاح تماماً فأصيب هو -والده- بعد عملية القلب بجلطةٍ تركته بشللٍ نصفي جعله يستعمل كرسياً متحركاً، كان الصبية -كما كل أهل الحي- ينتظرون عودة الوالد، حدثهم سند يومها قائلا:
-“ما تستغربوش كان شفتوه بكرة على كرسي”
هدوئه هذا وتسليمه كان غريباً على فتى لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً، لكنه لم يكن غريباً عليه، ينعطف سند يميناً.
تخرج جازية من غرفتها حاملة حقيبتها، وقف الكل في انتظارها لتوديعها، تُسلم عليهم فرداً فردا، أنهت جازية دراستها الجامعية، لكنها لم ترى نفسها في هذا التخصص، لم تعرف ما يجب عليها فعله، شككت في نفسها وقدراتها كثيراً، فلم تمنع نفسها من التجربة، وفي كل تجربة كانت تخرج بنجاح، قبل أيام، كانت في برنامجٍ تدريبيٍ خارج البلاد، عادت منه بالكثير من الهدايا والتساؤلات، شاركت الهدايا مع الجميع، رفضت مشاركة التساؤلات مع أحد، لم تكن تجيد مشاركة همومها، فضلت أن تكون منفساً لمن حولها يلجؤون إليه اذا ما فاضت همومهم، تجد صعوبة في البوح بما يدور في خاطرها حتى مع أقرب صديقاتها، تخاف على حد وصفها أن تزعج بذلك من حولها، تعانق جازية الجميع قبل أن تمضي في طريقها خارجة، تبتسم لمن وقف عند الباب مودعاً لها، تمتلك جازية ابتسامة معدية جعلت من وقف عند الباب مبتسماً رغم حزنه، تدور في بالها التساؤلات من جديد، تفكر في المستقبل، في حياتها، وفي طموح عائلتها، دعمتها أسرتها في كل خطوةٍ خطتها منذ أن كانت تحبو، لكن، طموح البنت الأكبر يجب أن يكون بيت زوجها، كبرت جازية، هي الآن في منتصف العشرينات، ينتظر الجميع يوم زواجها وتخطط أمها لذلك، حاولت أمها اقناعها بعريس، واجهت جازية أمها رافضة، حاولت أن تحدث أختها لعلها تدعمها، تسلم جازية على والدها قبل أن تصعد الحافلة التي ستمضي بها في رحلتها، تسند رأسها إلى النافذة وتعود لتفكيرها.
تعلو الأغاني من مسجل سيارة سوداء تشق طريق البحر مارة بجانب المنارة، تلتفت الغربان نحو الصوت، يجلس شيخٌ يرتدي سترة كثيرة الرقع يراقب البحر، يسمع كلماتٍ من الأغنية قبل أن تختفي فجأة مثلما ظهرت بعد أن مضت السيارة مسرعة:
“تجيبك أفكاري ليا”
مثل جازية، يتوقع الجميع من سند أن يُفرح الجميع بموعد عرسه، تزوج شقيقه قبل عامين تقريبا مما يعني بأن الدور بات دوره، يطمح سند لذلك، يعمل جاهداً، ويخطط أيضاً، يقف سند بالسيارة على مقهىً في طريقه للعمل، يُسلم على من بالمقهى مصبحاً عليهم، ضحكات وابتسامات، يخرج سند حاملاً معه كوب القهوة
صوت فرامل
رائحة مطاط محترق
صوت صراخ وعويل وبكاء يتردد صداه في ممرات المستشفى
توفيت جازية
يقول الرواة بأن أحدهم فتح باب السيارة بعد أن خرجت من الطريق إلى رمال الصحراء ليطمئن على جازية، خرجت هي واقفة من السيارة طالبة منه أن يطمئن على الأخرين قبل أن تسقط فجأة بعد وتفارق الحياة نتيجة هبوط في ضغط دمها، يقول راوي أخر، في مكانٍ وقت آخر، بأنهم رفعوا سند من الطريق بعد أن لاذت السيارة بالفرار، وضعه من كان بالمقهى في سيارة وانطلقوا مسرعين نحو المستشفى، لقنهم رقم هاتف شقيقه ليتصلوا به قبل أن يبدأ في ترديد الشهادة بضعة مرات، ثم صمت.
“يا طير سند داير حادث؟”
“كلماتك جازية؟”
“سند عطاك عمره”
“جازية ما تردش”
“كنا نرجو في عرسك جينا في عزاك يا سند”
“مزال بدري يا جازية مزال بدري”
يشتد البرد على العجوز الجالس عند البحر حتى لم تعد سترته برقعها قادرة على أن تقيه شره
ينهض من مقعده
ينظر نحو الأمواج
تصله بضعة قطرات من رذاذ البحر
تحلق الغربان بينما يمر بجانبها عائداً الى المدينة
تقف الغربان على سور مقبرة سي اعبيد
تقف تراقب قبوراً لم يزرها أحدٌ منذ عقود.
Comments