يقول الراوي – وهو هنا والدي الذي وُلد بمنزل العائلة في اخريبيش ببنغازي، يوم إعلان استسلام الرايخ الألماني الثالث الموافق للثامن من مايو سنة 1945- يتحدث الوالد عن أن الألوان الفاقعة والتطريز الذهبي المستخدم في الزي التقليدي والمسمى إصطلاحاً بالعربي – للتفريق بينه وبين اللباس الإفرنجي- يقول أن هذه الألوان هي ألوان فلكلورية غير رسمية كانت تُلبس من قبل أعضاء فرق الفنون الشعبية فقط، يمتعض هو من إنتشار هذه الألوان، أحاول إقناعه بأن المهم هو عودة هذا الزي للإنتشار بين الشباب بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الاندثار، يدور بيننا هذا النقاش في طريق عودتنا للمنزل بعد صلاة عيد الفطر، تكاد الشوارع تكون خالية من السيارات، لكنها مليئة بمجموعاتٍ متفرقة من الشباب الواقفين يهنئون بعضهم، يلتقطون الصور، أو لا يفعلون شيئاً سوى الوقوف، أحاول استفزاز والدي للحديث عن بعضٍ من ذكرياتهم، يُمثل والدي نافذتي المُطلة على بنغازي القديمة وحلقة الوصل بيني وبين أجدادي وأعمامه، يستمر والدي في رحلة الذكريات بحديثه عن ذلك الزمن، كان والدي في طفولته أصغر أحفاد العائلة ولهذا كانت له معاملة خاصة في البيت وخصوصاً من بنات عمه اللائي يكبرنه بسنوات، يذكر والدي أن إحدى بنات عمه حاكت له ذات يومٍ قبعةٌ خرج والدي فرحاً بقبعته الجديدة للشارع وفرحته هذه لم تدم طويلاً، بمجرد خروجه حتى قابله عمه مصطفى الذي سارع بخطف القبعة ورميها بعيداً وهو يصيح قائلاً
“نصراني؟”
كانت قبعة والدي هذه شبيهة بقبعات جند الطليان، ورغم أن جيشهم قد خرج منذ سنوات، إلا أن شكل القبعة ظل في ذاكرة عمي مصطفى كما يناديه والدي، والذي رفض أن يكون ابن أخيه متبشهاً بهم حتى وان لم يكن هذا التشابه مقصوداً، لم تكن فترة الاستعمار الإيطالي لليبيا لطيفةً على سكان البلد، يروي أجدادنا العديد من الذكريات السيئة القاسية التي مروا بيها، ذكرياتٌ جعلتهم يقفون فرحاً بدخول الإنجليز رغم أنهم هم أيضاً مُستعمرون، أسال والدي في منتصف حديثه عن أعمامه وعماته وترتيبهم، أظل دائماً أنسى ذلك أو أتناسى أحياناً، وأظل دائماً أنكش ذكرياته القديمة بحثاً عن بنغازي القديمة حتى أراها بعينيه، يقول ذات الرواي – هذه المرة متحدثاً عن عائلتنا- بأن له خمسة أعمام عرف هو منهم ثلاثة بعد أن مات اثنان، عرفتهم كلهم من قصصهم وابنائهم، وظلت عمته فاطمة ذات مكانة خاصةٍ بالرغم من انني لم التقِ بها، حفظتها في ذاكرتي رفقة ابنها سي عقيلة، نُقل بعض أفراد العائلة إلى معتقل العقيلة ولبثوا هناك بينما كان الطليان يبحثون عن سيدي رجب وعلي الصادر بحق كُلٍ منهم حُكم إعدام، أقود الراوي إلى صفحةٍ أخرى بسؤالي عن عيد الفطر فيما مضى فيُجيب الراوي بأن نساء البيت اعتدن على إعداد العصيدة صباح أول يومٍ من عيد الفطر في كل عام
“كانوا يديروا مقعدين ويحطوهن في السقيفة (مدخل البيت)”
يبقى باب البيت مفتوحاً للشارع أمام المارة بينما يبقى رجال البيت أمامه يدعون المارة للدخول والأكل
“اللي طالع من الجامع يعزموا عليه”
أهرب من الراوي نحو ضريح عمر المختار، نحو ما تبقى من بنغازي القديمة، مجموعة من شباب المدينة وقليلٌ من مُدنٍ أخرى جاؤوا للاحتفال هنا، نقف رفقة الصحب نلتقط صوراً أمام الضريح قبل أن نخرج منه صوب البحر عابرين شارع الشريف مارين بسوق الجريد والمنارة من بعده، فيما مضى كان سقف هذا السوق الذي تأسس قبل 200 عامٍ تقريباً مصنوعاً من سعف النخيل ولهذا سمي بسوق الجريد، يُحكى عن هذا السوق أنه كان فيما مضى من مراكز المدينة الاجتماعية اضافةً لوظيفته التجارية، يقف السوق اليوم خالياً فارغاً موحشاً لا يُسمع فيه دبيب النمل، لا يظن من يراه أن حياةً دبت فيه ذات يوم.
يرمينا شارع الشريف إلى البحر فنقف عنده، تهب نسماته العليلة علينا تبعد عنا وتُبعدنا عن ما يُحزننا ولو لوقتٍ محدود، من خلفنا تقف المنارة، لم تُرشد هذه المنارة السفن في البحر فحسب، بل أرشدت ايضا سكان المدينة واستقروا حولها، يُشير الراوي في زيارة سابقة إلى الرصيف المقابل للبحر قائلاً بأن كل هذا لم يكن موجوداً فيما مضى، كانت الرمال أقرب للطريق، يشير إلى زقاقٍ صغير قائلاً كنا نخرج من هذا الشارع فنجد الشاطيء أمامنا، يُكمل حديثه واصفاً المشهد فيما مضى، هنا كان الحبس وهناك المصنع، وهنا الأمريكية، يستذكر قدومه للشاطيء صغيراً رفقة ابناء عمه الأكبر منه سناً ثم ينتقل للحديث عن مراحل الدراسة، تختلف الأسماء لكنها تبقى مألوفة.
نقصد جميعنا ميدان البلدية، يقف الجامع العتيق في أحد أطراف الميدان مقابلاً لشارع عمر المختار شاهداً على عصورٍ عديدةٍ شهدتها المدينة، كان هنا في عصر الترك وبقي بعد أن رحلوا، لم ينكسر في عهد الطليان وظل هو واقفاً بعد أن انكسروا، ورغم كل الحروب التي شهدتها المدينة، إلا أن العتيق ظل يرفع الأذان في مركز المدينة، حتى بعد أن بات مركزها أشبه بمدينة أشباحٍ غريبة، من أمام العتيق يمتد شارع عمر المختار خالياً هو الأخر وبالرغم من صغر أعمارنا مقارنة بعمره، إلا أننا أدركنا هذا الشارع وعرفنا جزءً من أيامه كما أدركنا سوق الحوت بعهديه القديم والجديد، وسوق الحوت هذا سوقٌ موسميٌ للطرائف، اسمه في ذاته، طرفة فلا حوت ولا سمك يُباع هنا، يُقام السوق كل رمضان ويقصده سكان المدينة لقضاء اخر ساعات الصيام هناك، بداية رمضان هذا، انتشر فيديو لشابٍ يبيع الأرانب يقف في السوق صائحاً في المارة منادياً على بضاعته، قمة التسويق بالنسبة له كان الحديث عن العائلات الاوروبية وتربيتها للأرانب كحيواناتٍ أليفة، يعود الرواي من جديد للحديث عن سوق الحوت، يُحكى أنه ذات عام وقف بائعٌ على بسطةٍ يبيع أكياس رمال البحر على أنها رمال مُخصصة لتحميص الكاكاوية (الفول السوداني)، ولاقت تلك الفكرة رواجاً بين سُكان المدينة حتى صارت الرمال وصاحبها حديث المدينة كلها.
في يومٍ اخر، أعود لذات المنطقة، هذه المرة أعود رفقة راويٍ أخر، يقول هذه المرة بأن مساجد بنغازي لم تكن تُبنى بمئذنة وأن من استحدث هذا هم العثمانيون، الاحظ ذلك مباشرة في جامع الجهاني الواقع باخريبيش، أستذكر فور وقوفنا أياماً خلت كنا -والدي وأنا- نُصلي جُمعةً هنا وجُمعةً في مسجد عُتبة بن مسعود (جامع البوسكو) في الفويهات، كانت تلك الصلوات ربما حلقة وصلٍ أخرى بيني وبين أجدادي، الأموات منهم والأحياء، نترك الجامع خلفنا ونسلك زقاقاً أو شارعاً صغيراً يرمي بينا على ناصية شارعٍ يُسمى اليوم بشارع اخريبيش، عُرف الشارع بين الناس باسم شارع بن عمران، وفي هذا يقول الرواي بأن كل شوارع المدينة كانت تُعرف باسماء عائلاتٍ تكون في العادة أقدم العائلات سكناً أو تكون هي العائلات التي تسكن ناصية الشارع، بدأت هذه الاسماء عُرفاً بين الناس، ثم صارت اسماء رسمية عنونت بها البلدية شوراع مدينتها، حتى قررت ذات البلدية في حُقبةٍ أخرى تغيير أسماء الشوارع، أحد هذه الشوارع كان يسمى بشارع المْهَلْهَلْ -بستكين الميم وفتح الهاء الثانية- نسبةً لعائلةٍ تسكن الشارع، فقررت البلدية تغيير الاسم إلى المُهَلهِلْ ابن ربيعة نسبة إلى عُدي الزير شاعر الجاهلية، يذكر الراوي موقفاً لأحد شياب الحي يوم كانوا ساهرين في بيت عائلة المهلهل إذ سأل سي محمد قرقوم -كما سماه الراوي- قائلا:
“يا مْهَلْهَلْ اسم أمك ربيعة؟”
رد عليه المْهَلْهَلْ نافياً، فرد الأول قائلاً:
“وليش كاتبين عالشارع المْهَلْهَلْ ابن ربيعة”.
أخرج من الشارع وأترك كل شيءٍ خلفي، أعبر بسيارتي ما كان ذات يومٍ مدينة بنغازي متجهاً إلى بنغازي، يقول الرواة بأن هذه الأرض كانت فيما مضى أرض سبخة لا يسكنها أحد، وكانت تسمى بكاوة او كوية الملح، والكاوة هو لفظٌ في لهجة المدينة القديمة يعني الأرض الخالية… تقريبا، وأن هذه الأرض لم تعمر إلا بعد أن اختلط بملحها أناسٌ جاؤوها من مناطق مختلفة، فاختلطوا بملحها، واختلطت هي بهم، ونتج عن هذا خليطٌ جميلٌ يكفي أن نضع موسيقى المرسكاوي فيه لنُعبر عن جماله، فالمرسكاوي هذا ايضاً كما سكان المدينة، جاء من بقعةٍ أخرى إلا انه صار جزءاً من المدينة، ذات المدينة التي سُميت قديماً برباية الذايح كونها تقبل كل غريب حتى صرنا غرباء لا نعرفها ولا تعرفنا، أقول للراوي الثاني في سيارتي بأن لجيلنا إمتياز رُبما حُرمت منه أجيالٌ أخرى، فأنا مثلاً وُلدت في الكيش، تربيت في الفويهات، درست في طابلينو، وكان لي أصدقاءٌ في غالب أحياء المدينة باختلاف طبقاتها الإجتماعية من وسط البلاد حتى عمارات المساكن
شربنا من سبخة بنغازي المالحة، فما بالها اليوم لا تستصيغ هي ملحنا؟
Comments