top of page

غربة الربيع

ahmedobenomran

كوب قهوة

كأسٌ فارغة

جبل ملابس يرقد على الارض بعد ان إنهار من السرير

صوت موسيقى ينبعث من التلفاز

جسدٌ مرميٌ على السرير

تظل هذه الغرفة بكل الفوضى فيها مُرتبة أكثر من صاحب الجسد

“استيقظت إذن؟”

خرج صوتٌ أنثوي من ركن الغرفة مُخاطباً الجسد الذي استدار بعيداً عن الصوت،

“مُتعبٌ من ليلة البارحة؟”

يضحك الصوت في خبث

“هي ليلة صاخبة فعلاً”

ينهض الجسد في محاولة للهروب من صاحبة الصوت، يدلف الحمام، تُسمع أصوات المياه من الغرفة، تمتزج بصوت عود بونقطة وصوت غنائه (ذبتي ذوب يا شمعة طفيتي).

تتسارع قطرات المياه ضاربة أرضية الحمام بعد أن انحدرت على الجسد مُحاولةً غسله.

“قطرات المياه

كوب القهوة

الكأس الفارغة

والموسيقى

كلها ترقص في طربٍ معاً بينما تقف انت هنا، وحدك تهم بالخروج من الغرفة محاولا الهرب مني مرة أخرى، لن تفلح”

قالها الصوت الأنثوي قبل أن يغلق الجسد باب الغرفة خلفه راحلاً.

————————————————————–

ممر الفندق، تنتشر الغرف ذات اليمين وذات اليسار، يشق صاحب الجسد طريقه ماراً بينها في هدوء، تدخل أشعة الشمس من السقف الزجاجي على استحياءٍ فتنير الممر ولو قليلاً

“أتذكر طريقك هنا؟”

يسأل ذات الصوت الأنثوي

“هل تذكر الطائرة؟

صعود

إقلاع

هبوط

ثم غُربة

هل تذكر الرحلة أم أنك نسيتها عمداً؟

الزوجان الشابان الجالسان بجانبك

إحتضان الزوج لزوجته عندما اضطربت الطائرة في الجو مطمئنأً إياها، إمساكه بيدها طوال الرحلة، لم يكونا معكم في الطائرة، بل كانوا في مكانٍ أخر، في ملجئٍ أمن يحميها من قذائف عشوائية قد تصيب أحدهما، أما أنت، كنت هناك في الخلاء بعد أن رحل ملجأك، كنت وحيداً في طائرةٍ تعج بالمسافرين.

تمتد الطريق مستقيمةً دون أن تنعطف، تمضي السيارة فوقها مسرعة كأنها تلتهم القطران التاهماً لا يخفف من سرعتها الا الخوف من رادار سرعةٍ غدار، عن اليمين وعن اليسار تمتد كثبان الرمال المتشابهة بينما تستقر الشمس في منتصف السماء تضرب بأشعتها السيارات المارة، لم يُفلح مكيف السيارة في طرد الحرارة ولكنه جعلها ألطف قليلاً،

“تغيرت مصر كثيراً يا دكتور”

يُعلق أحد الركاب الذين معك قبل ان يستأنف

“تغيرت حتى صرت لا أعرفها ولا أطيق البقاء فيها طويلاً”

يستمر الإثنان في حديثهما عن مصر بينما تستمر أنت بالإبحار في قُطرٍ آخر مُبتعداً عن مصر ورحلتها فذلك قصة أخرى، تظهر بين الفينة والأخرى مزارع صغيرة تُغير قليلاً من لون المكان وتضيف له الخضار، تمرون بفلاحةٍ من أهل البلد تجلس في كوخٍ صغيرٍ على قارعة الطريق تبيع شيئاً ما على الأغلب هو من إنتاج مزرعتها، لا تقفون عليها، لكنها تصعد السيارة معكم لتصبح رابعتكم وتظل في تفكيرك لمسافةٍ طويلة، لم تنزل حتى ذلك الجسر، تضرب الشمس عينك فلا تستطيع تمييز من فوقَ الجسر، لكنهما شخصان، توحي ظلالهما بأنهما ذكرٌ وأنثى وقفا يلتقطان صوراً مع الصحراء من خلفهما بعيداً عن أعين المتطفلين، يحضن الشاب محبوبته تقيه حرارة الجو وتُثلجه، بينما تجلس انت خلف مقود السيارة تلمح كل هذا في ثوانٍ معدودة وتبقيه في ذاكرتك للأبد، يبدو أن هربهم من المتطفلين لم يُفلح حينها.

على ذات الطريق وبعد مسافةٍ طويلةٍ جداً، تقف شقراء رفقة صغيرها، لم تكن تشبه الفلاحة، لم تكن تشبه تلك الظلال فوق الجسر، هي غريبة من بلدٍ غريب، من قارةٍ غريبة، تتحدث لغةً غريبة، لكنها كانت مطمئنة أكثر منك.

يُفتح باب المصعد فتخرج إلى بهو الفندق، يجتمع العديد في منتصف البهو، يجلسون بينما يضعون مشاريبهم أمامهم، عازف الساكسفون يقف في الخلف يعزف ألحاناً مختلفة، تُوحد الموسيقى الجموع المختلفة الجالسة، عربٌ وإفرنج يجلسون يستمعون لذات الموسيقى، تستقر على كرسيٍ بعيد رفقة زملاء العمل، تتجاذبون أطراف الحديث، أو يتجاذبون هم أطراف الحديث بينما تشرد أنت عن واقعها، تشد زوجة أخرى يد زوجها ساندةً اياه، تواسيه في أمرٍ تعجز عن سماعه، يسند هو رأسه على كتفها في نهاية المطاف، بينما يقف زوجان آخران يرقصان معاً بينما يستمر عازف الساكسفون في مداعبة أقدامهم بموسيقاه، يعود الصوت الأنثوي من جديد قائلاً

” يتحدث الناس ويرقصون، بعضهم يخاطبك، لكنك تعود مرة أخرى للتحدث معي”

——————————————————————————————————-

تلامس عجلات الطائرة أرضية المطار، بدت بنغازي غريبة من الأعلى، لم تكن تلك المدينة التي رأيتها من الطائرة ذات نهارٍ قبل سنوات، باتت شيئاً أخر، تعج الصالة بمسافرين عائدين لبنغازي، كان الطقس خارج المطار غريباً، تتلبد الغيوم بأشياء غريبة، ليست غيوماً أو تراباً ربما هي مزيجٌ من الإثنين، أعود لغرفتي، ربما هي البقعة الوحيدة التي لا أشعر فيها بالغربة، أرمي الحقيبة بعد أن أُخرج منها مذكرتي، تسقط الأتربة المعلقة في الجو بفعل قطرات المياه لتُعلن الغيوم انتصاره في هذا الصراع، تعود بي الذاكرة لبضعة سنواتٍ للخلف، لغرفتي في الشقة رقم ثلاثة بعمارة مليحة واينور في قبرص الشمالية، لآخر أيامي هناك، كانت لي حينها مُفكرة أخرى تشبه هذه التي معي الأن، تشابه ايضاً ما كُتب في كليهما رغم اختلاف الزمان والمكان، ودعت يومها هريرة لأن الركب مُرتحل، لكنني أبداً لم أطق الوداع، أنظر للمُفكرة التي رافقتني طيلة رحلة عملٍ امتدت لأسبوع في تونس الشقيقة، رافقني صوتها طوال تلك الايام، عجيبٌ كيف يُمكن لمجموعةٍ من الأوراق البيضاء انت تكون ملاذاً لك يُخفف عنك شيئاً من غربتك، غريبة هذه الأوراق تكون في يومٍ مُشرقة وتكون في الأخر مُلبدة بالغيوم، هنا أظن أنني شاركت كل أفكاري، تحدثت عن سنين قبرص العجاف التي -وبالرغم من قساوتها- كنا نضحك فيها ضحكات تخرج من القلب للقلب، عن بنغازي الصبية التي شاخت ذات يومٍ فلم نعد نعرفها، ولم تعد تذكرنا، عن طفولة ومراهقة تعلمنا فيها كل شيءٍ حميدٍ وخبيث، تعلمنا في صغرنا القرآن وحفظنا أجزاء منه في خلوة المسجد القريب، وبجانب ذات المسجد تعلمنا التدخين، كبرنا ليصبح كل هذا ذكرياتٍ أكتب عنها هنا، وأعيش بين الذكريات في غربةٍ أخرى هي غربة الذكريات، ضف إليه غربة الكلمات التي صارت تكبر شيئاً فشيئاً حتى لم تعد تعرف بعضها البعض… ولم أعد أعرفها، جفت تلك الكلمات التي كانت مُزهرةً ذات يوم، اصفرت كما تصفر اوراق الأشجار قبل أن تسقط كل خريف، وها نحن ذا في مارس، شهر دخول الربيع، ولكنني لا أرى الربيع قادم… ربما اغترب هو الأخر وقرر الا يعود.

8 views0 comments

Recent Posts

See All

31

30

Comments


bottom of page