top of page

ذات يوم في بنغازي

ahmedobenomran

بنغازي، الساحل الجنوبي للمتوسط، الحد الشرقي لخليج سرت، غرقت هنا ذات يومٍ بعيد فتاة انجليزية تدعى جوليانة كانت ابنة قنصلٍ بريطاني فقام الترك بتسمية الساحل باسمها تخليداً لذكراها، حَرف الليبيون اسمها ليصبح جليانة و ليصبح اسماً يطلق على تلك المنطقة، حاول الطليان انزال جنودهم على ذاك الشاطئ ذات يوم فكانت أول معاركهم في بنغازي، يومها اجتمع اهل بنغازي كافة من تجارٍ ومزارعين، حواتة و جامعي الملح، أقام الطليان بعدها نصباً تذكارياً لإمرأة تحمل درعاً تخليداً لقتلاهم، جاء الاستقلال فحل محل نصب المرأة نصبٌ اخر يشبه المسلة تخليداً لشهدائنا، فشهدائنا احق بقتلاهم بالتخليد، ضربت الكوليرا عام 1914 فأقام الطليان في جليانة مستشفى للحجر الصحي او ( الكرنتينة)، سحرت جليانة الاجانب فكانت جاذباً لهم يأتونها صيفاً للإستمتاع بشاطئها، او قضاء ليلة في ملهى الريفيرا، وربما التقاط بعض الصور مع أهل المدينة قبل ان يعودوا لديارهم ليحدثو أقاربهم عن تلك المدينة الجميلة، يحتفظ أبنائهم من بعدهم بصورهم هناك ليحدثوا كل أحد عن سحر جليانة، ذهب هؤلاء، وذهب الريفيرا، وذهب ذلك الزمن، لكن جليانة بقت في مكانها، بقت جليانة كمدخل بحري للمدينة، وبعد أن دخل الفرنجة منها ذات يوم، هاهي اليوم بضائعهم تدخل بنغازي منها، وبعد ان كانت نقطة تجذب السياح، هي اليوم نقطة تجذب المواطنين اذا ما فكر احدهم يوماً في وجبة حوت، خلف سوق الاسماك (البنكينة) اجتمعت مبانيٍ سكنية جعلت من جليانة حياً سكنياً، وبالرغم من ان جليانة جغرافياً هي في مركز المدينة، الا ان موقعها المتطرف جعلها اشبه بضاحية من الضواحي، انت لن تمر بجليانة يوماً في طريقك للعمل مثلا، انت تقصد جليانة اذا ما كنت تريد قضاء حاجة هناك.

في يوم سبتٍ وجدت نفسي هناك باحثا عن ورشة (فايبر) لسيارتي، وقفت عند أحدهم

أخبرته عن المشكلة

جاء ليعاينها بنفسه، فمن رأى بعينه ليس كمن سمع بأذنه، حدثني قليلاً عن كيفية حل المشكلة و عن العمل اللازم لإصلاحها، سألته عن ما يهمني فعلا،

“وكم حسبتها هذي يا باشا؟”

اعطاني التكلفة الإجمالية لعملية الإصلاح هذه، وتم الاتفاق دون اي مساومة او مماكسة، ادخلت السيارة لكراجه ليباشر العمل، وكأي عاملٍ حرفيٍ، اشعل هو سبسي الأمريكانا اخذ منه نفساً بينما يقوم بدراسة الوضع جيداً قبل مباشرة العمل، تركته قليلاً و سرحت في البحر الذي يقابلني، الجو غائمٌ جزئياً، تجتاح المكان نوبة برد عندما تغطي الغيوم الشمس، ينجلي البرد ويعم الدفء اذا ما أطلقت الغيوم سراح اشعة الشمس، يقطع سرحاني هذا بين الفنية و الأخرى مرور الشاحنات الكبيرة، عندما مرت احداها سمعت ذاك الشاب يشتمهم ويشتم قيادتهم، تركت النظر للبحر ودخلت الورشة متأملاً اياها، كل شيءٍ بالداخل كان عشوائيأً بطريقةً منظمة، في المنتصف استقرت طاولة كانت مكان الادوات ومكان العمل في آنٍ واحد، فوق الطاولة انحنى هو منهمكا في العمل، لم يكن عاملاً وافداً، شابٌ ليبي في العشرينات من عمره، قبل عشر سنواتٍ ربما كان من الصعب ان تجد شاباً مثله في هذه الصنعة، لكن الظروف تغيرت

“مش عارف وين مار عليا انت”

سألني بينما كان منهمكاً في العمل ودون أن ينظر نحوي، اعرف هذا السؤال جيداً واعرف الهدف منه جيداً، ستمسع هذا السؤال أينما ذهبت في بنغازي، لايهم من تكون او من يكون السائل، ليس بالضرورة ان تكونا قد تقابلتما قبل ذلك فعلاً، فليس هذا هدف السؤال بل هدف السؤال الفعلي هو التعارف، تكون إجابة السؤال في العادة

” حتى انا مشبه عليك والله”

وانتبه عزيزي الغير عارف بالمحادثات الليبية الى ان والله الواردة هنا ليست يميناً، بل هي جزء من سياق الحديث، ثم يستمر الحديث بأسئلة عن محل السكن، معارفك هنا وهناك، اين درست؟، اين تعمل، وكل ما يلزم الطرفان من اسئلة حتى يتعرفا على بعضهم، وهكذا يبدأ الحديث بين الغرباء في بنغازي، يتحول الحديث ليصبح حول “حال البلاد”وكيف ان كل شيء بات صعباً يتخلل ذلك بعض الشتائم “لهم” ف”هما اللي خربوا البلاد” و “هما اللي سرقوا” دون ان يوضح احد من هم، ويبقى كل السب والشتم مقيداً ضد مجهول، ككل الجرائم هنا.

وقفت أمام الورشة سيارة رباعية نزل منها فتى يوحي مظهره بأنه مراهق، ربما لم يبلغ حتى السن القانوني للقيادة، دخل للورشة وتوجه للشاب صاحبها، حدثه عن مشكلةٍ ما في سيارته، ترك الشاب ما بيده بعد ان استأذن مني وتوجه خارجاً ليلقي نظرة على سيارته، على وجهه ظهرت ملامح الضيق فور رؤيته للسيارة و رؤية هيئة صاحبها، هي ذات النظرات التي اعتلت وجهي عند رؤيتي لذات الشيء، ترى ماذا فعل هؤلاء حتى صارو اكثر المكروهين عند عامة الشعب، اي ذنب اقترفته حتى يكرهك الناس أكثر من الحشاش والسراق، القى الشاب نظرة على سيارته ثم عاد ليكمل عمله معي، سأل المراهق عن تكلفة الأمر و عن الوقت المطلوب لإتمام العمل،

” نخدمها لك بسبعين، ما تاخذش وقت هي، نكمل اللي في يدي”

ظهر الانزعاج على وجه المراهق عند سماعه للجزء الاخير من الجميل، ربما لعدم رضاه عن ضرورة قضاء حاجتي قبل حاجته، رغم انني جئت قبله، لكن بما انه ولد فلان فلابد أن تُقضى حاجته قبل الآخرين، و ربما لو كان شخصاً آخر لتنازلت له عن دوري، لكن بما انه ولد فلان فلابد ان ينتظر حتى انتهي انا، وربما لو كان شخصاً آخر استأذن مني الشاب أن ينهي له حاجته قبلي بما انها “ماتخذش وقت”، لكن بما انه ولد فلان فلابد له ان ينتظر، هنا لن ينفعه اسمه ولا اسم ابوه، ولن يستطيع الاتصال بأحد معارفهم ليسرع الأمور، هنا لا سلطة له ولأبوه ولكل معارفهم، ربما كان ارغامنا له على الانتظار طريقة تظاهر آمنة لجئنا لها احتجاجاً منا عليه وعلى والده، فهو -وكما يبدو من هيئته- من هم، نظر في ساعة يده قليلاً ثم قال

“ومن الأخير كم نهايتها؟”

في محاولة منه لمساومة صاحب الورشة في التكلفة، لكن الشاب لم يرضى بهذه المحاولة، فرد عليه موضحاً ان هذا سعر السوق، وان لم يعجبه السعر فباستطاعته السؤال في الوِرش المجاورة، رضى المراهق بالأمر و التزم الصمت، وركب سيارته لينتظر بداخلها، تمتم الشاب قائلاً

“راكب سيارة بربع مليون ومستخسر سبعين جنيه”

ابتسمت من سخرية الموقف، هذا المراهق كما قال الشاب يركب سيارة لو عمل الشاب حياتها كله فلن يتمكن من شرائها، يحمل هاتفاً يعادل ثمنه مرتب ستة أشهر لدى موظفٍ من اصحاب “الأجور العالية”، يخرج هذا المراهق يومياً ربما بمئة دينارٍ في جيبه سيصرفها على “كريب” و اشياء اخرى قد لا تكون ذات قيمة، بينما يرى ان سبعين جنيهاً ستكون كثيرة على خدمة يقدمها لها هذا الشاب، وهي القيمة التي حددها الشاب لعمله، لم يدرِ المراهق حينها أننا نبادله نظرة الانزعاج التي بدت على وجهه، لم يعلم اننا رغم اختلافنا -الشاب وانا- الا اننا اجتمعنا على بغضه، فهو حتماً لم ينزعج هذا الإنزعاج عندما قدم ربع مليون دينار ثمناً لسيارته، هذا إذا احسنَا الظن وافترضنا بأنه اشترى السيارة ولم تكن “هبة” من هبات الدولة التي عجز امثالنا عن فهم طريقة كسب رضاها لنصبح من الذين رضيت عنهم، هو لم يساوم ولم ينزعج عندما دفع ثمن هاتفه، هو حتماً لم يقف ذات يومٍ في (بالة) يسأل النادل

“كم نهايتها؟”

عندما رأى فاتورة حساب غداء سمك مكونة من ثلاثة خاناتٍ وربما اربعة، فلماذا تقف الآن تساوم شخصاً يحاول ان يكسب قوت يومه بيده، قد يقول بينه وبين نفسه

“يبي سبعين جنيه عشان يشري حشيش”

و حتى ان افترضنا جدلاً بأن ذلك، فلماذا اساوم شخصاً يحاول كسب حشيش يومه بيده دون ان يسرق او يعتدي على احد

Iشرع صاحب الورشة في “تشطيب” ما في يده

اقتربت منه لأرى ما يحدث ولأساعده إذا ما احتاج مساعدة

انتهى كل شيء

صعدت سيارتي و خرجت من الورشة فيما كان الشاب في ورشته يخبر المراهق في سيارته بأن يُدخل السيارة و ماتزال ملامح الضيق بادية على وجهه، عجباً اي فعلٍ فعله هذا المراهق وامثاله حتى باتو اكثر فئة مكروهة من الجميع، وتعجبي هذا كان ساخراً، فأنا وانت و هو و الجميع نعرف لماذا صاروا مكروهين، خرجت من جليانة عبر كوبري العرائس، فوق هذا الجسر وقف العرسان ليلة زفافهم لإلتقاط صورة تذكارية، تحتهم مياه بحيرة الثالث والعشرون من يوليو، من خلفهم كانت تظهر جليانة و الريفيرا والبانكينا تارة، وبنغازي وفندق تيبستي و المدينة الرياضية تارة اخرى، كل هذا كان في زمنٍ مضى ولن يعود، في زمنٍ كانت فيه جليانة جميلة ترقد على كتف بنغازي، و البحيرة طفلة صغيرة ترقد في حضن بنغازي، بينما كانت هي -بنغازي-، حسناء تسند جليانة والجميع بكتفها، تضم البحيرة واحلام الجياع والتائهين والمشردين لحضنها، كيف يمكن لي ان اطلب منهم الآن ان يحبوك وقد سحبتي كتفك من تحت رؤوسهم، كيف لي أن أطلب منهم أن يبقوك في أحلامهم وقد حولتي أحلامهم لكوابيس، كان الجو حينها صحواً وقد استقرت الشمس منتصف السماء، لكن شمسك انتِ كانت غائبة، ولم تكن الغيوم ما غيبها، نظرت نحو البحر قبل نزولي من الجسر وسألت نفسي سؤالاً سأله نجيب سرور ذات يومٍ قائلاً

“البحر بيضحك ليه؟”

وسرعان ما تذكرت اجابةً قاله احمد فؤاد نجم و غناها الشيخ امام بعده

البحر غضبان ما بيضحكش

اصل الحكاية ما تضحكش

قللنا فخارها قناوي

بتشيل حكاوي وبلاوي

يا قلة الذل انا ناوي

ماشرب ولو في المية عسل

بيني وبينك سور ورا سور

وانا لا مارد ولا عصفور

*الصورة لمبنى الكاتدرائية (الاتحاد الاشتراكي)، احد معالم بنغازي

5 views0 comments

Recent Posts

See All

31

30

Opmerkingen


bottom of page