تبدأ الزهور في التفتح في فبراير فتضيف للمروج الخضراء لمسة ألوانٍ أخرى تختلف باختلاف “نُوَارها” فيكتسب الشهر -فبراير- منها اسماً أخر في هذه المنطقة فيصير معروفاً باسم (النُوار)، تسطع الشمس منتصف السماء باعثة نفحاتٍ من الدفء تضرب شوارع المدينة، لا تأمن لهذا الدفء، فالجو في فبراير متقلب المزاج يكون مشمساً تارة وينقلب ماطراً بارداً في لحظة، يخرج ناس المدينة نهاراً بحثاً عن لقمة عيشهم، تعج بهم الشوارع وتزدحم المدينة حتى تحجب السيارات الإسفلت عنك، تقول الاسطورة ان هذا الاسفلت كان ذات يومٍ نظيفاً واسعاً قبل ان تسكن الأتربة جوانبه دون أن يُقلقها عامل نظافة ما.
في مفترقٍ ما، تعطلت الإشارة الضوئية فوقف شُرطي مرور يحاول تنظيم حركة السير، سيارةٌ ما، عشوائية، لا مواصفات لها هنا، تخيلها اي سيارةٍ شئت، لكنها بسيطة، يجلس بها شابٌ في منتصف العشرينات تعتلي وجهه علامات الإرهاق والتعب، خدعه الجو صباحاً فظن أن الطقس سيكون بارداً وهاهو ذا، تضرب الشمس ملابسه الثقيلة فيخنقه الحر بينما ينتظر دوره في التحرك
ينتظر
تمر بضعة طيورٍ في السماء فينظر نحوها متابعاً إياها حتى تغيب عن ناظريه في الأفق
يعود للنظر نحو شرطي المرور
يعود لانتظاره
يسترق السمع إلى الموسيقى المنبعثة من مسجل السيارة الواقفة بجانبه
يمنع نفسه من الإستماع بعد انزعاجه من رداءة الأغنية
يأتي الفرج أخيراً اذ يلمح الشرطي يلوح لهم معطياً الإذن بالتحرك
ينطلق فرحاً بعد انتهاء انتظاره
تدخل أمامه سيارةٌ أخرى -تعرف مواصفاته وشكلها دون أن تراها- سارقةٌ منه الدور عنوة
ينطلق هو ضارب زامور السيارة غضباً
تنشر منصة ما
تابعةٌ لجهةٍ ما
خبراً ما
مفاده (شبابٌ في مدينة ما يحتجون بزامور السيارات غضباً على الجهات الحاكمة هناك)
ترد أخرى
تتبع لجهةٍ أخرى
خبراً أخر
يقول (شابٌ عميلٌ موجهٌ من جهاتٍ خارجية يحاول زعزعة النظام والاستقرار في بلدنا الأمن المطمئن)
يُكمل الشاب -الذي عبر للتو عن غضبه من شيءٍ أخرٍ سُرِِق منه- طريقه بعد أن أصدرت إطارات سيارته صوت احتكاكٍ بالاسفلت تاركاً خلفه شرطي المرور ينظر لما حصل للتو دون حولٍ له ولا قوة
قل لي يا صديقي، إذا كنت لا تستطيع التعبير عن غضبك دون أن تُستغل أو تُتهم، فلماذا خرج الناس؟
يمشي على رصيف الشارع زوجان كبيران في السن تستند العجوز على ذراع (شايبها) والذي -وبالرغم من أن مشيته كانت توحي بأن عظامه هو لم تعد على تحمله فمابالك بعظام غيره- لا يُظهر اي علامات انزعاجٍ من استناد زوجته عليه، يسيران معاً في خطاً بطيئةٍ سيجيبونك حتماً إن سألتهم بأنهم يمتنون لو تحركت سنواتهم بطيئة كما تتحرك خطواتهم الأن، يحمل الزوج في يده الأخرى قفة سعفٍ قلة رؤية مثلها في هذه الأيام، بداخل القفة، قليلٌ من الخضار والفواكه وبضعة قطعٍ من الشوكولاتة اشتراها الجدان لأحفادِهما، يتذكر العجوز أياماً مضت كانت فيها هذه القفة أثقل بكثير، خف وزن القفة كما خفة قوة ذراعه لا العكس، تضاعف سعر كل شيء بينما ضعِف مرتب الحاج حتى صار لزاماً عليه أن يقلل احتياجاته حتى تتلائم مع دخله فصار لا يشتري الا الاساسيات من سلعٍ غذائية وخضارٍ وشوكولاتة، فالحلوى بكل أنواعها و أشكالها هي من الأساسيات عند الأجداد وكيف لهم أن يُعبروا عن حبهم من دونها؟.
يمر الإثنان من أمام منزل جارهم السابق (عطية)، يتذكر الإثنان معاً كيف كان حال عطية هذا قبل سنواتٍ مضت وكيف انقلب كل شيء فجأة، ظهر لعطية هذا ابن عمٍ كان يعيش خارج البلاد لسنواتٍ ثم عاد، أصر عطية على اقامة مأدبة عشاء يدعو فيه كل من يعرفه على شرف ابن عمه هذا، أشاد الكل بكرم عطية الذي وبالرغم من بساطة حاله سعى أن تكون مأدبة العشاء من أفخم ما يكون، فاشترى من حمد الجزار ومن محمد المصري الخضار ومن يوسف البقال أجود ما يملكون، سجلوا هم كل ذلك في دفتر ديون عطية دون أن ينتظروا منه درهماً واحداً فكلهم يعرفون حال عطية الذي كان له دفترٌ خاصٌ به عند كلٍ منهم، قل إعجاب الجميع عندما رؤوا ابن عم عطية ذاك وزيراً في حكومةٍ ما، وزال كل إعجابهم عندما كان عطية يقف خلفه مسافراً معه ظاهراً بجانبه يحمل حقيبته في كل مناسبة، لهذا اذن أقام عطية تلك المأدبة!
بجانب منزل عطية المهجور نسبياً يقبع منزل عبد العاطي، هو كعطية، ترك منزله خلفه ورحل، الا أنه رحل منه خوفاً عندما خرج الناس، مثل عطية، كان له هو ايضاً دفتر ديونٍ خاصٍ به دون أن يجرأ أحدٌ طلب هذه الديون منه طبعاً، فما كان في يد عبد العاطي كان كفيلاً بإرسال أي أحدٍ إلى المجهول، رحل الاثنان وخلف كلٍ منهم ديونٌ لم تُسد بعد يدفعها جيرانهم.
قل لي يا حاج، إذا حل عطية محل عبد العاطي، فلماذا خرج الناس اذن؟
من أمامهم يمر طفلٌ صغيرٌ يجر على ظهره حقيبته المدرسية المليئة بكُتبٍ مدرسيةٍ عجزت المدارس عن توفيرها، لا يعرف الطفل عن ذاك الشاب شيء، لا يدري أيضاً عن ما بداخل قفة الحاج، ولا يذكر أي شيٍ عن عطية وعبد العاطي، يمشي الطفل بمللٍ وتعبٍ متجهاً لبيتهم، خلع زيهم المدرسي ورماه في الحقيبة، يضرب بقدمه الحجارة متخيلاً نفسه لاعب كرة قدمٍ محترف، تتدحرج الحجارة في اتجاهات عشوائية على الاسفلت، ذات الاسفلت الذي تشقق قبل خروج الناس دون أن يعالجه أحد ودون أن يذكر هذا الطفل انه ذات يومٍ كان الاسفلت جيداً، هو ذات الاسفلت الذي سقط الناس عليه ذات يومٍ فيما مضى، لم يكن هذا الطفل حينئذ قد خُلق من الاساس، وهو ذات الاسفلت الذي افترشه مواطنٌ ذات فجرٍ ينتظر المصرف حتى يفتح أبوابه لعله يجد فيه من ماله ما يقيه هو و ابنائه من شر السؤال، كنت حتماً يا طفلي البريء نائماً لا تدري أين ذهب أبوك، ولا تدري أنه وقف في ذات اليوم على هذا الاسفلت ينتظر في طابورٍ طويلٍ للحصول على بضعة أرغفة من الخبز، ولا تدري حتما أن هذا الكرتون المقوى المُلقى على الاسفلت هو سريرٌ لمواطنٍِ يفترش الأرض ليلاً لينام على الاسفلت بعد يرقص الأخرون احتفالاً على الاسفلت في احتفالاتٍ تُرصد لها الملايين.
أخبرني أيها الطفل المُتعب، إذا كان المواطن يذوق الويل منذ ان وُلد في رقعتنا هذه بينما يرى أموال الشعب تُصرف على الحفلات والملاحم الغنائية، فلماذا خرج الناس إذن؟
يقول عمنا الراحل محمد الماغوط في مسرحية شقائق النعمان على لسان شخصيتها الرئيسية (نمر) عندما وقف مخاطباً زوجته (زهرة) والبقية بأنه لن ييأس، مدام هناك شخصٌ واحدٌ في هذا الوطن يقول (لا) ولو لزوجته، فهو لن ييأس، ثم رحل الماغوط، رحل دون أن يرى آلاف المواطنين وربما ملايين، يخرجون في شوارع متفرقة من بقاع الوطن، يصرخون بكل جهدهم قائلين لا، ثم ماذا؟
رحل الماغوط قبل أن أخبره بأنه مازلنا نملك العمارات والمباني وربما تضاعفت أعدادها كما تضاعفت أعداد المشردين، رحل الماغوط قبل أن أخبره بأنه لم يعد هناك أحدٌ يجرؤ على قول (لا) في هذا الوطن ولو لحلاقه، فهل نفقد الأمل الأن؟
Comments