لم يكن الجوع و العطش يوما من الاشياء التي ترهقني في رمضان، كل ما كان يتعبني هو ثقل رأسي بعد استيقاظي بساعات، وضعٌ مشابهٌ لما انا فيه الان، يوم عطلة احاول استغلاله بأفضل الطرق الممكن، الإستلقاء في غرفتي دون ان اقوم بشيء، فقط التامل في السقف و التجول داخل العالم الافتراضي ، بالرغم من ان رمضان فرصة للناس ليتغيروا و يكونوا اشخاصاً افضل، الا انا هذه الشخصيات في العالم الافتراضي ما تزال ترفض التخلي عن اكبر عيبٍ فيها، ما تزال تريد ادعاء الكمال هنا، ان يكونوا كل شيء الا حقيقتهم، الكل يريد ان يكون دافينشي، الكل يريد ان يكون كل شيء في عصر اللاشيء، و لا ادري عن اي شيء اتحدث هنا، و لا استثني نفسي من هذا الكل، الوضع في غرفتي كأنه صورة حية من حرب فيتنام، اشياء مبعثرة عن اليمين و عن اليسار، كل ما ينقص هنا هو موسيقى تراجيدية ليصبح الامر كمشهدٍ من احد افلام سبعينات القرن الماضي، تسللت لأنفي رائحة كريهة اشعرتني ببعض الضيق، نهضت لأبحث عن مصدر هذه الرائحة، لكنني لم اجد شيئاً، يبدو ان خيالي قد شطح كثيرا هنا فجعلني احس بحرب فيتنام و اشتم رائحتها، و على ذكر فيتنام، اذكر انني كنت فيما مضى، عندما كنت طفلا قبل أربعون عاماً، او عشرون، اذكر انني كنت مولعا بفكرة الحرب، ان تحمل سلاحاً، ان تقاتل، و لكنني اليوم انظر لذلك الطفل و اضحك، فلننظر الى حرب فيتنام، و لا ادري لماذا اصر على هذه الحرب بالتحديد صدقا، لكن أن تعبر دولة ما المحيط لتصل الى دولة أخرى فتقيم فيها حرباً، و تقتل فيها ابرياءً، و تشرد الافاً، كل هذه تحت مسمى نشر الحرية، اعتقد انه لا قيمة للحرية إن لم تكن حيا، اللعنة، هذه الرائحة كريهة جداً، تبدو و كأنها رائحة جيفة ما، تباً هل وصلت جثث حرب فيتنام الى هنا، قلت هذه الجملة الاخيرة لنفسي و ضحكت لطرافتي و خفة ظلي، نهضت مرة أخرى، هذه المرة بحثت بشكل ادق، تحت السرير، في خزانة الملابس، خلف الكتب المكومة على طاولتي، لكنني مرة أخرى لم اجد شيئاً، عدت للإستلقاء مجددا، اتذكر النسخة الطفولية مني ، ترى مالذي غير رأيي؟ مالذي جعل الحرب تتحول من شيء جميل إلى فكرة مروعة، قد يكون النضج الفكري، و لكنني هنا سأكون غير ناضج اذا ما وصفت نفسي بذلك، فأنت لا ترى فاكهة تتحدث عن نضجها يوماً، بل ببساطة هي تجعل غيرها يرى هذا النضوج، ام تراه ما رأيت في الحرب من دمٍ و حزنٍ و فقدان هو ما جعلني اغير هذه النظرة، يقولون بأن الناس عندما يذهبون الى الحرب هم لا يعودون ابدا، لا أدرى ان قال احدهم هذا فعلاً ام انني قلته و نسبت القول لأحدٍ غيري، ما تزال هذه الرائحة تضايق انفي لكنني احاول تجاهلها، ام تراني يجب ان اهتم بيها حتى ترحل ككل شيء تهتم بيه في هذه الحياة فيرحل كأنك ميدوسا تحول ما تراه الى حجر، ربما لهذا السبب كرهت الحروب، فمقدار الحروب التي مررت بيها و خسرتها جعلني اوقن بأنني لست شخص حرب، فأن تخوض المعركة تلو الأخرى للظفر بشيءٍ ما دون جدوى امرٌ مؤسفٌ حقاً، يتحدث الناس كثيرا عن حروب النفس، و اعتقد انني خضت اغلبها، ان تحارب حتى تعيش، ان تحارب للحفاظ على عقلك في عصر الجنون، قالوا عن الحرب حرب، و أخشى أن أقول بأنني خسرت حتى هذه الحرب، لا لشيء ، لكن لأنني لم اجد جيشا يواجهني، لأنني كل الجيوش التي اردت مواجهتها إمتنعت عن حربي و رأت انني قوات حفظ سلام ليست كفؤا للنزال، فاعتزلت الحروب هنا و قررت خوض حربي الاخيرة، حرب الحفاظ على نفسي، اقمت حربا حتى احفظ الأنا بداخلي، و لا أود القول بأنني خسرتها….
لقد عرفت سر رائحة الميتة هذه، كيف لم انتبه لها من البداية، رائحة الجثة هذه كانت رائحتي.
Comments