top of page

بين مغادرة و وصول

ahmedobenomran

ثلاثة شبان، ثلاث وجوه، سيارة واحدة ، طريق طويل يحاصره الضباب، رؤية شبه معدومة ” انتبه” صرخ الذي يجلس بجانب السائق محذرا صاحبه من السيارة التي ظهرت أمامهم فجأة من بين الضباب، كان هذا الأمر كفيلا بأن يُخرج صديقهم الثالث الجالس بالمقعد الخلفي من شروده، نظر إلى الامام محاولا استيعاب الأمر، نظر نحو الساعة “الساعة هذي معدلة؟” سأل صديقيه ، اجابه احدهما بعد ان تأكد من ساعة هاتفه :”معدلة” فرد عليه : ” لن نلحق بالطائرة بهذه السرعة” فهم صديقه مقصد كلامه فقال :” ضباب يا اخي، و انت اللي تأخرت أصلا” كان مساعد السائق قد انتهى للتو من ربط هاتفه بمذياع السيارة لتشغيل الموسيقى، التفت للخلف ثم قال : سمعنا ان الحلاقة تتم بعد الدخول إلى السجن لا قبل الدخول، من يراك حليق اللحية و مثبتا لشعرك سيظن انك ذاهب إلى حفل زفاف و انت العريس، لا ذاهبٌ إلى السجن لثلاثة اشهر ” تحدث الذي بالخلف :” انا عائدٌ إلى اهلي و صحبي و بلادي بعد غياب عامين، ان لم اكن انا العريس فمن غيري يكون عريساً؟”

-” هل تعرف يا صاحبي مالفرق بين الزواج و العودة للوطن و دخول السجن؟”

-” انت رايق عالصبح”

-” طبعا رايق، في الثلاث حالات السابقة انت تفقد حريتك، لكن الفارق انك تذهب للزواج و الوطن راكضا فرحاً”

توجه جليس المقعد الخلفي للسائق بالحديث فقال: ” قتلك رايق هذا ” صمت قليلا ثم استأنف حديثه : ” الوطن لا يشبه بشيء سيء كالسجن مهما حدث، بلدي و ان جارت علي عزيزة”

-” هذه بلدك انت، انا طير حر” تدخل الشاب خالد من المذياع قائلا عمري ما ننسى بلادي ارضي و ارض اجدادي

-” سمعت ؟ هاقد جاوبك الشاب خالد “

-” كلام الأغاني دائما حلو، مثله مثل كلام السياسيين، مخدر يتم اعطائه للشعب حتى يهدأ و يسكن، فيصير الشعب مريضاً تم تخديره قبل ان يتم خلع ضرسه حتى لا يشعر بالألم، الفارق ان ما سيفقده المريض هو مجرد ضرس، أما ما سيفقده الشعب بعد تخديره هو كرامته، قوُته و قوَّته، سيفقد هذا الشعب كل شيء”

نطق السائق بعد صمت طويل : ” كفاكما حديثا فقد أصابني الصداع و وصلنا للمطار” توقفت السيارة عند مدخل المغادرين، ارتجل منها مساعد السائق و صاحب المقعد الخلفي، أما صاحبهما فقد ذهب للبحث عن موقف ، دخل الصديقان إلى المطار ، و بينما انطلق صاحبه مسرعا حاملا الحقيبة، كان المسافر يتباطأ قليلا في الخلف، يفكر بينه و بين نفسه، هل فعلا يريد العودة؟ هل فعلا يود تحمل مشقة السفر و العناء؟ و من اجل ماذا ؟ هو يعلم انه بعد شهر على الأكثر سيبدأ بسب نفسه لرجوعه، تقدم نحو بوابة التفتيش على مهل، بدأ بوضع أشيائه على الجهاز، حيا الموظفة الجالسة قائلا صباح الخير، صاح به صديقه قائلا : ” هل بإمكانك ان تكون ابطأ من هذا؟ بالله عليك نريد ان نعود لننام” تقدم نحو البوابة على مهل كلاعب يدخل ارضية الملعب للمرة الأولى، جمع حاجياته و انطلق ليأخذ كرت الصعود، أما الموظفة فقد كانت تفكر في هذا الشخص الذي حياها منذ ثوانٍ، هي لم تعتد على هذا الأمر و هذا ما جعلها ترتبك و تتفاجأ و تتعلثم قبل ان ترد عليه، لا احد يحيي هؤلاء الموظفين، متى مثلا كانت اخر مرة ابتسمت فيه لعامل النظافة بالمطار؟، متى حييت مقاعد المطار؟ بالنسبة للزوار فهؤلاء العمال مثلهم مثل اثاث المطار، هم مجرد ديكور موجود هناك، حتى ان بعضهم صار يؤمن بأنه مثل المقعد الذي يجلس عليه، أو مثل دلو ماء التنظيف الذي يحمله، نسي هؤلاء بأنهم بشر لأن يومهم في المطار بات شبه خالي من التواصل البشري، و هذا ما يطرح سؤالا فلسفيا قديما، مالذي يجلعنا بشراً؟ مالذي يشكل إنسانيتنا ؟ لم يكن حال موظفة التفتيش هذه مختلفاً، هي تجلس طوال فترة دوامها على مقعدها هذا، يمر من أمامها كل يوم مئات البشر دون ان تتحدث مع احدهم، يضعون حقابئهم أمامها فترى هي من خلال الشاشة ما بداخلها، و يمضون، لم يخفى على احد بأن مافعله هذا المسافر و رغم بساطته كان قد ادخل السعادة على قلبها، هذا ما قالته الابتسامة المرتسمة على وجهها و التي دامت طويلا، ما قاله ذلك المسافر جعلها تعدل جلستها و تستقبل المسافرين بوجهٍ اكثر بشاشة، نعم لقد كان في حاجة لدافعٍ ما، لشيء ينسيها كل مشاكلها و يجعلها ترميها خلفها و لو قليلا، لقد كانت تحتاج لشيء ما يشعرها بوجودها، كل هذا تحقق عندما حياها احد المسافرين فصارت كنبتة صبار تحصلت على بضع قطرات ماء، هي مجرد قطرات ، و لا احد يعلم متى ستحصل عليها مرة أخرى، لكن حتى ذلك الحين هذه القطرات ستكفيها و تجعل هذه الموظفة تزيل ربطة شعرها و تعيد ربطها مرة أخرى، و هذا في رأي خبراء لغة الجسد يعني ان الأنثى سعيدة، أو تشعر بالحب، أو حزينة، أو مستاءة، صدقا لا احد يعرف معنى ذلك فالأنثى كائنٌ لا يمكن فهمه. وقف صاحبنا ينتظر دوره في نقطة الجوازات ، في الصف وقف أشخاص بجنسياتٍ مختلفة لكلٍ منهم اسم و قصة ، جاء دور صاحبنا ، ختم جواز سفره و استعد للخروج، استدار للخلف محياً صديقيه و مودعا إياهما الى ان يلتقو مرة أخرى ، عاد الصديقان نحو سيارتهما، بعض المحلات مغلقة و بعضها مفتوحة ، في المطار أناس نائمون ينتظرون طائرتهم، لم يكن معهم اجرة تاكسي فاضطرو لاستعمال الحافلة و قضاء ساعات الانتظار الطويلة على المقاعد في المطار، اشخاصٌ يركضون للحاق بطائرتهم، عند بوابة الوصول مر الصديقان بشابٍ خرج يحمل حقائبه ، ينظر يمينا و يسارا باحثا بين الوجوه عن وجه يألفه لكنه لم يجد احدا، في الواقع كان عدد من ودعوه في المطار الذي جاء منه اكثر من الذين في استقباله هنا رغم ان المطار الأول كان في بلدٍ اخر و هذا المطار في وطنه، إذن ما هو الوطن؟ أتراه تلك الرقعة الجغرافية التي ولدت بها و تحمل جواز سفرها؟ أم انه حيث تجد من تحب و يحبك ؟ في الخارج ابٌ يضع يده على كتف ابنه محتضنا إياه، و أمٌ تحمل حقائبه ليرتاح من حملها بعد ان أتعبت كاهله طوال الطريق، كان للمشهد دلالات أخرى ، لم يكن الأب يعلم ان حضنه هذا كان هو الوطن الذي ابتعد عنه الابن لسنة، و لم تدر الأم ان الحقائب التي تحملها ليست ما اثقل كاهل ابنها، بل ما أرهقه هو ابتعاده عنها، لم يكن الاثنان يعلمان ان ابنهما الذي يستقبلانه اليوم ليس الابن الذي ودعاه قبل عام، فالغربة – أي كان تعرفيها- وحش مفترس يلتهم صاحبه من الداخل، لم يعرفا ذلك و لم يهتما له من الأساس، كالشمس التي أشرقت دون ان تهتم بهذه العائلة، دون ان تهتم بصاحبنا الذي جلس يدخن في انتظار صعوده للطائرة، دون ان تهتم بالصهباء المبتسمة عند نقطة التفتيش، دون ان تهتم بالمطار و من فيه من مسافرين و بقصصهم المختلفة بين مغادرة و وصول.

1 view0 comments

Recent Posts

See All

31

30

Comments


bottom of page