top of page

انا و كانت

ahmedobenomran

​‏صباح جديدٌ ممل في العيادة بين من يعانون من اضطرابات نفسية لم تخرج عن المؤلف , الاكتئاب الناتج عن نهاية علاقة عاطفية و صدمات من حالات وفاة , حتى دخل الزبون الرابع في ذاك اليوم , زبونٌ جديد لم أره من قبل , نظرت إلى ملفه لأقرأ اسمه , عندها عرفت بأن الواقف أمامي هو (كانت) أحد فلاسفة عصر التنوير , جلس و طلبت منه أن يتحدث و بدأ في الكلام , الواضح من حديثه بأنه يعاني من حالة إحباط و اكتئاب سببها فلسفته و محاولته إيجاد شيء يعرف الخير و الشر , الجيد و السيئ , سألته : ” و مالذي جعلك تفعل كل ذلك ؟, لقد كان العالم يسير و يعتمد على الكتب الدينية و أوامر الإله لتحديد ما حاولت أنت تحديده ؟” ,

صمت هنا قليلاً و أخذ يفكر , أظهرت عيناه نوعاً من الندم , ثم قال بشيء من الحسرة :

” نعم , أنت محق , لقد كان المنظور الديني للموضوع أسهل “.

لم يعجبني استسلامه و بسبب غريزتي ككائنٍ ليبيٍ سادي يستمتع برؤية عذاب الآخرين عدت و قلت له :

“لكن ألا تظن أن هذا ليس بصحيح , فمن الصعب تحديد الأشياء التي تحدثت عنها بالاعتماد على مرجعية دينية فقط , لأنه من الصعب تفسير النصوص السماوية تفسيراً واحداً بل تختلف التفاسير حولها , و لهذا نرى اليوم في الإسلام عشرات المذاهب و التوجهات , كلها تقرأ ذات الكتاب , بل أيضاً في إحدى معارك الفتنة الكبرى كان جند الفريقين يقرؤون القرآن طوال الليل و يدعون الله أن ينصرهم على الفريق الأخر “. لمعت عيناهُ فرحاً و تحدث بسرعة قائلاً : نعم , هناك أيضاً سببٌ أخر ألا و هو هل هذه الأشياء التي أمرنا الإله به جيدة لأنه أمرنا به أم أن …”

صمت للحظة ثم عاود الحديث بنبرة صوتٍ غريبة فقال :

“دعك من كل هذا , هلا أخبرتني أنت عن رأيك ؟!”

و إحقاقاً للحق فقد أربكني سؤاله كثيراً لأنه لم يخطر ببالي أن ألتقي بفيلسوفٍ و يقوم بسؤالي عن رأي في قضية فلسفية حتى لو كان لقائي قد حدث في مخيلتي , رتبت أفكاري و نظمتها لأجيب على السؤال الموجه لي :

-” سيدي الفاضل أعتقد أولاً أن كلمتي خيرٌ و شر و الجيد و السيئ لا وجود لهما إلا في قصص الأطفال , في عالم الواقع فهي أمورٌ نسبية تختلف باختلاف الأشخاص و مبادئهم , لو كان هذا الشيء يحمل مبادئاً تقترب من مبادئي فهو أمر جيد , و لو كان عكس ذلك فهو أمرٌ سيء , تحديد ذلك سيعتمد علي أنا لا على شيءٍ أخر خذ النازية و ما قامت به على سبيل المثالي من وجهة نظر شخص نازي أو معادي لليهود سيرى المحرقة شيئاً جيداً , و العكس صحيح “. – ” لكن …” لم أعطه فرصة للحديث وقلت : ” أعلم ماذا ستقول , ستقول بأن العالم اتفق على أن ذلك العمل كان فظيعاً و ليس مجرد سيئ , سأقول لك بأن هذا الأمر يحدده الطرف المسيطر على مصادر المعلومات و وسائل التحريض كالإعلام مثلاً, في حالة الحروب و النزاعات يكون هذا الطرف عادة هو الطرف المنتصر في النزاع , إذا ما انتصر اليمين فاليمين هو العدل و الحرية و اليسار هو الخراب , و إذا ما انتصر اليسار فاليسار هو العلم و الثقافة و اليمين هو التجهيل , و لو تبدلت الأحوال في هذه القضية مثلاً لصارت النازية هي أكثر الأفكار تقدماً بل و إنسانية أيضاً , و ستدفن جثث اليهود المتفحمة بين صفحات كتب التاريخ جنباً إلى جنب مع جثث ألوف الهنود الحمر الذين ارتكب المستعمر الأوربي في حقهم أفظع الجرائم و من ثم وضع التراب فوقهم حتى كاد العالم اليوم ينسى تلك المجازر , إن الطرف المنتصر دائماً على حق و هو الجيد… .” -” ولكن …”. انزعجت من مقاطعته لكلامي و ربما تكون قد ظهرت علامات الانزعاج على وجهي لكني عدت للحديث بذات الهدوء الذي بدأت به :

“ستقول بأن المعايير تبقى ثابتة فالجيد معروف و ثابت و السيئ معروفٌ و ثابت , و أقول لك لا , و لنتحدث عن طبقة حاكمة و معارضة , من يتبعون الطبقة الحاكمة سيرون أن تصفية المعارضين لهم أمرٌ جيد لأنه يضمن استقرار النظام مثلا , في حين أن المعارضين سيرون ذلك فعلاً مشيناً , و لو دارت الأيام و باتت المعارضة هي الحاكمة و الحاكمة صارت معارضة , فإن من كانوا يُقتلون بالأمس سيرون في تصفية المعارضين لهم ضماناً لاستقرار الدولة , و سيرى قتلة الأمس في تصفيتهم هم فعلاً إجرامياً , إن هذه المصطلحات يا سيدي الفاضل تماماً كمصطلحي (تحرير و سيطرة) فما تراه أنت تحريراً لمنطقة ما سيراه خصمك سيطرة , و العكس أيضاً صحيح , و سيطرة خصمك على منطقة ما سيكون تحريراً بالنسبة له و سيعرف الناس أين السيطرة و أين التحرير بعد انتصار أحدكما في هذه الحرب , و الآن بإمكانك التكلم “. ابتسم الفيلسوف بإستهزاءٍ وقال :” بعد ماذا؟! لقد أردت أن أطلب منك الإذن بدخول الحمام و لكن الآن يجب عليك أن تنظف هذا المقعد حتى لا تنتشر الرائحة في المكان أو أن تحضر واحداً جديدا.”


0 views0 comments

Recent Posts

See All

Comments


bottom of page