يجب أن اولا ان اعترف أنك ستفقد جزءاً كبيراً من لذة الأعياد لحظة مغادرتك وطنك , من الطريف ان تنسى كل ماهو سيء حول بلادك بعد سنواتٍ قليلة في الغربة , تنسى كل الأمور التي كرهتها يوماً لا يبقى في ذاكرتك سوى الاشياء الجيدة بل من الطريف ايضاً ان تلك الامور السيئة ستصبح فجأة جيدة , ستعرف أن العيد لم تكن له فرحة دون المراسم المصاحبة له , نحن مثلاً هنا في جزيرةٍ وسط المتوسط اقترب منا العيد دون ان نلحظ , حتى انه صرنا في يوم الوقفة , يوم الكبيرة , و مازلنا لم نشعر بأن العيد غداً , و اخشى ان يمر العيد ايضاً دون ان نشعر , وربما لهذا السبب لم اصم هذا اليوم , اعني لقد كان لهذا اليوم دوما علاماتٌ تجعله مميزاً هناك في بنغازي , ازدحام الشوارع بين العصر , رائحة روث الغنم تجوب الشوارع , سياراتٌ هنا و هناك محملة بأغنامٍ و اطفالٍ ينظرون نحوها نظرة من يكاد يطير من الفرح , بل هم يطيرون من الفرح فعلاً , باعة اخذوا من الرصيف مكاناً مؤقتا يبيعون فيه بضاعتهم ,
فحم
سكاكين
عدة الشواء
كم يلاحقني شوق لكل هؤلاء , يلاحقني الشوق لجولات سوق السعي قبل اختيار اضاحي هذا العام , صوت الباعة كلُ ينادي على اسعار خرافه ليجذب المشترين , اطفالٌ يدفعون عرباتٍ يدوية صغيرة , يحومون في السوق حتى يجدوا من يريد نقل الشاه الى سيارته فيندفعون اليه مسرعين قائلين
” برويطة يا حاج؟”
اذكر ايضاً اننا في احدى السنوات تحلقنا حول والدي بعد الإفطار , كنا صغاراً حينها, جلس ابي يقص علينا بعض الألغاز و القصص التي كانت تسميها عجائزنا خراريف , تناقلتها سابقاً الأمهات و الجدات جيلاً بعد جيل , لكنها اختفت اليوم و تكاد تنقرض , حدثنا ابي يومها عن كل ما حفظه عن امه , و قد احببت هذه الخراريف ربما لكونها من اثر جدتي , من بين ما قصه والدي يومها (خرافة ام بسيسي) اشهر تلك الخراريف , هي ذاتها التي يضرب بها المثل في طولها , و لسببٍ لا أعرفه استيفظت صباح اليوم افكر في هذه الخرافة , افكر في ام بسيسي الطير المهاجر الذي ربما يمر كل سنة ما امر به الأن , كلانا طيورٌ مهاجرة ابتعدت عن موطنها بحثاً عن شيء افتقدته هناك , طار ام بسيسي نحو جنوب المتوسط بحثاً عن الدفيء , و طرت انا الى شرق المتوسط بحثاً عن عدة اشياء , ترى لو بعد سنواتٍ عديدة اردت ان اقص على ابنائي خرافة ام بسيسي يوم كبيرة العيد , استكون ذات الخرافة ؟ , في القصة الأصلية فأرٌ واحد هو من سرق الحليب , لكن في قصصنا اليوم فئرانٌ عدة تسرق الحليب و الماء و الخبز بل و الأعشاش , في خرافتنا اليوم سرق الفئران كل حليب العنز و نبق السدرة و ماء الوادي و زغراتات النجع و مناجل الحصادة و قمحهم , لم يبق سوى عصا الخروبة و النار , حتى خرفان الراعي باتت الفئران تمنن علينا بها , في الخرافة كان للفأر السارق جزاؤه بأن قُطع ذيله و توسل لكل من في الأرض حتى استعاده , ام عندنا فبعد ان سُرقت ام بسيسي قام الفئران بقص اجنحتها و صاروا يجرونها خلفهم دون ان تنطق هي بكلمة , في الخرافة اراد الفأر ان يفرح بالعيد مع اقرانه , اما فئراننا فلم تجعل للعيد فرحة , لم تجعل لشيء فرحة , و لا أدري الى متى تظل أم بسيسي تطيع الفئران و تسكت عنهم ,مالذي تنتظره بعد ؟ اتخاف من الجوع ؟ و ماذا تسمي الذي هي فيه ؟ , اتراها تخشى الموت ؟ الم تعد تموت كل يوم الف ميتة بينما تعبث الفئران بعشها ؟لم تترك لنا الفئران سوى ذاكرتنا التي صرنا نعيش فيها بعد ان اخذت كل شيء , و حتى ذكرياتنا ستنتهي بعد ان يموت كل ما فيها ,
ترى ماذا سأخبر ابنائي اذا سألني لماذا لم تمنع ام بسيسي الفئران من سرقتها ؟ او اذا ما اراد احدهم ان يقول و لماذا وثقت ام بسيسي في الفئران اصلاً , فالفئران لا تؤتمن
كيف سأقنع ابنائي حينها بأن العيد في بلدنا كان له نكهته , كان له فرحة لن يجدوا مثلها في اي مكان ؟ كيف سأقنعهم بأنه كان في بلادنا يوماً طيورٌ و انهارٌ و اشجار و لكن الفئران سرقتها كلها و عبثت في كل المكان حتى احالتها خراب حتى اصبحت اثراً بعد عين .
Comments