هذه المرة كانت الأهزوجة مختلفة “اللي ما تعطيش الفول يصبح راجلها مهبول اللي ما تعطيش الحمص يصبح راجلها يتلمس ” يعلو صوت الغناء و تعلو معه ضحكات شريرة قادمة من الخارج تقترب أمنة أكثر من زوجها تضع يدها على كفتها “فرج!!” نادت أمنة زوجها و هي خائفة يلتفت فرج فجأة فتصرخ أمنة , كانت عينا زوجها تسيلان الدم بعد أن فقأتا , يبتسم فرج لزوجته و يقول :”ههه كسر العادات يستوجب ثمناً ههه” ثم يعود ليرتطم باب الحمام مرة أخرى
—————–
استيقظت امنة فزعاً من نومها شهيق زفير تتأمل الغرفة حولها , كانت هذه غرفتها , نعم كانت , هي في بيت أهلها الأن , تنظر يميناً , تطالع أشعة الشمس الأتية من النافذة “لقد كان كابوساً!” تقول لنفسها بصوتٍ عال, يجيبها صوتٌ اخر من اليسار “نعم, انه كابوس” , تنظر فزعة لتجد أختها مريم , تدرك أمنة أن كل ما رأته كان كابوساً , حتى انها لم تتزوج , تطلق تنهيدة راحة تنهض أختها قائلة :” الأفضل أن تنزلي بسرعة قبل أن تنزعج أمي” , تتجه إلى باب الغرفة خارجة , تجلس أمنة قليلاً تحاول تذكر كل هذا الكابوس بتفاصيله الغريبة، صور عشوائية للأشخاص الذين كانوا رأتهم تجوب مخيلتها، تطرد كل هذه الصور و تنهض لتلحق بأختها. “صباح الخير يا أمي ” تحيي امها بإبتسامة و ترد عليها الوالدة “صباح الخير و الهنا و الرضا من الله , ها كيف حالك الأن؟” ردت أمنة قائلة “بخير رغم أنها لم تفهم طبيعة سؤال امها تجلس على طاولة الإفطار رفقة والدتها التي بدأت بالأكل , “ألن تنتظري مريم؟!”
سألت آمنة تظهر علامات اليأس على وجه أمها و هي تتمم ” الله يرحمها”
تنظر الام صوب ابنتها، تحاول أن تقول شيئاً و لكنها تصمت، تتناول رغيف الخبز ثم تكمل تناول طعامها كأنها لم تسمع شيئاً.
“كيف الله يرحمها؟ لقد كانت معي بالاعلى”
تسأل آمنة وسط موجة مختلطة من المشاعر.
” يا امنة يا بنتي, الموت سنة الحياة كلنا له في النهاية، يجب أن تفهمي هذا، لا بأس أن حزنا على موتانا ولكن لا يجب أن نعيش في هذا الحزن، عندما مات والدك حزنت عليه كثيرا، ربما أكثر من حزنك على فرج، و لكن ……”
فقدت آمنة تركيزها عندما سمعت اسم زوجها
اذن لم يكن كابوساً ؟
ام أنه كابوس و هذا جزء منه؟
و إن لم يكن كابوساً فأين هم اولادها؟
تحاول النهوض و لكنها تفقد توازنها و تسقط على الأرض مغشيا عليها.
——————–
” هذا قنديل و قنديل”
تصل اهازيج الاطفال في الشارع إلى اذن آمنة التي بدأت تستيقظ شيئاً فشيء، تجول بنظرها الغرفة و لكن الظلام كان غطى كل شيء, تحاول البحث عن هاتفها لتعرف الوقت لكنها لا تجده،
تعلو من الخارج اصوات الاطفال بأهازيج ليلة المولد مختلطة بالموسيقى الخارجة من قناديلهم، تغمض آمنة عينيها و كأنها تحاول فهم كل ما جرى من جديد، تضيء الغرفة و يأتي صوت أنثوي قائلا:
“الحمد لله لقد استيقظتي”
التفت آمنة لتجد اختها مريم تقف عند الباب، قبل أن تستوعب آمنة مالذي يحدث كانت مريم قد نادت على امها قائلة : ” تعالي استيقظت آمنة، انتظري، هي لن تسمعني”
بدأت تقترب من آمنة ببطيء ، تعلو وجهها ابتسامة مخيفة, في الخارج صمت كل الاطفال و بقيت قناديلهم تخرج الموسيقى بصوتٍ غريب
” أنتِ وحدك من تسمعينني يا آمنة, كنتِ الوحيدة التي سمعتني يوم أن غرقت في البئر، و ستظلين الوحيدة التي تسمعني حتى تموت”.
استيقظت آمنة فزعة، لتجد امها بجانبها هذي المرة، هدأت الام من روع ابنتها و هي تقرأ عليها بعضاً من آيات القرآن، هي ذات الغرفة التي استيقظت فيها أكثر من مرة هذا اليوم، الغرفة التي يملؤها البخور الان، و ارتفع فيها صوت تلاوة القرآن من مذياع بجانب السرير.
الام تحضن ابنتها و تحاول تهدئتها، البنت بوجه مختلط المشاعر، خوف ؟ لا، بل هلعٌ و حيرة.
يقطع هذا المشهد صوت جرس المنزل فتتجه الام لترى من بالباب، آمنة لوحدها من جديد، صوت اطفالٍ آخرين يأتي من الشارع، هذه المرة أصواتهم كانت مختلفة عن المرة الماضية، هذا المرة استطاعت أن تحدد عدد الأطفال
” تفضل تفضل”
اتى صوتٌ ذكوري من خارج الغرفة ثم ما لبث أن دخل خالها الغرفة و يتبعه رجلٌ بلحية كثيفة و ثوبٍ سعودي.
وقف الخال قائلاً:” هذه هي يا شيخ”.
نظرت آمنة لخالها ثم للرجل الآخر و امها تحاول أن تبحث عن إجابة في وجه اي منهم، شعر خالها بذلك فقال:
” هذا الشيخ عبد الواحد يا بنتي، أن شاء الله الشفاء على يده”
“الشفاء ؟”
تسألت آمنة
” و من قال اني مريضة ؟”
و هنا جاء صوت امها :
” خلاص يا آمنة، لا تكابري، كل هذا و لستِ مريضة ؟ كل كلامك عن مريم و لستِ مريضة”
صمتت الام قليلا ثم عادت بصوت من يكابر الدموع و يرفض البكاء : ” مريم ماتت و شبعت موت، و لن ادعك تلحقيها هكذا، توكل على الله يا شيخ”
شمر الشيخ عن ساعديه بعد أن طلب بعضة اشياء من الام، ثم باشر عمله بذكر الله و تلاوة آيات من القرآن، كان الخال واقفا في طرف الغرفة، و لم تستطع الام مشاهدة ما سيجري فخرجت ، اما آمنة فقد كانت في مرحلة ما بين الصحو و النوم، تقف بين الوعي و اللاوعي، صار بخور الغرفة كالضباب الذي حجب الرؤية عندها، من خلفه كانت ترى ظلالاً لثلاثة أطفال يحملون قناديلهم مرددين
هذا قنديل و قنديل
يشعل في ظلمات الليل
امتزجت هذه الاهزوجة بالصوت الرديء الخارج من قناديلهم
يا طيبة يا طيبة
يا دواء العيانة
و من بعيد جاء صوت تلاوة الشيخ
فجأة وجدت آمنة نفسها تقف أمام مريم، هذه المرة لم تكن وحدها، كانت بصحبة اشخاصٍ لم تستطع آمنة رؤيتهم،
” اخبريه أن يتوقف، كل هذا لن يصلح شيئاً”
قالت مريم بوجهٍ خالٍ من التعابير.
“كلا”
ارتبك الشيخ قليلا، بدا ذلك واضحا من نبرة صوته اللي تغيرت فجأة، لكنه استمر في التلاوة بعد أن رفع صوته و كأنه يحاول أن يخفي ارتباكه، اما الخال فقد تراجع خطوتين للخلف.
آمنة تقف بين عالمين الان، عالمٌ ترقد فيه امام الشيخ في غرفتها، و عالمٌ اخر لا ترى من معالمه شيء سوى اختها و الأشخاص الأربعة الذين يقفون خلفها،
” مهما حاولتي فلن ينقذك شيء يا امنة، أنتِ من سببتي كل هذا، لو انك ساعدتني ذاك اليوم لكنت حية الان، لكن لا، سمعتي صوت صراخي و فضلتي تجاهله، هاهي النتيجة امامك اليوم ”
” اصمتي”
صرخت آمنة فجأة، هذه المرة توقف الشيخ عن القراءة للحظات، أما الخال فقد تراجع الى ركن الغرفة و بدأ يتمتم باشياء غير مفهومة.
“أنتِ ميتة و انا لا اراك”
“بل لا احد غيرك يراني، و ستظلين دائماً هكذا، و لكن لن اكون وحدي بعد الان، انظري من معي، انظري من نال مثل مصيري”
بخطواتٍ بطيئة تقدمت من الخلف مريم الصغيرة، نظرت نحو امها ثم ابتسمت ابتسامة مريبة.
” مفاجأة اليس كذلك؟، أن يكون اسمها مثل اسمي و تلقى ذات النهاية”
صعقت آمنة لما رأته، حاولت أن تنكر ما تراه فقالت
“لكنها لم تمت يومها”
” لا لم تمت، لأنك جعلتي من الفتاشة وجبة غداء، و هنا قررت الفتاشة معاقبتك على ذلك، فكسر العادات جريمة تستحق العقاب هههه”
” ماذا تقصدين ؟”
” أقصد أن عقابك لم يكن بحرمانك من من مريم و حسب”
هنا تقدم من الخلف ابنيها، نظر الاخوان نحو الام، ثم وقفا بجانب اختهما، يحمل الثلاثة قناديلهم المضيئة، لم تستطع آمنة الصمود فانهارت باكية تصرخ في الم، كل هذا الحديث و الصراخ كان يحدث على مرأى و مسمع الشيخ و الخال الذان زاد الارتباك بينهما.
” توقفي عن البكاء فلن يفيدك الان، لقد حذرتك قبل هذا و لكنك تجاهلتِ كل كلامي، بل كل من نصحك”
” نعم يا آمنة، لو انك سمعتي كلامنا على الأقل”
قالها فرج الذي تقدم هو الآخر من الخلف مفقوء العينين.
” هذا زوجك، ارأيتي ماذا فعلتي به؟ الم اخبرك أن تحذري منه فهو ليس مثلنا، فرج كان سلال قلوب، و لما لم يستطع سل قلبك أنتِ و شعر بالضعف أمامك قرر أن يتزوجك، بالطبع شيء كهذا يستحق تضحيات عديدة، كان أهمها أن فرج يجب أن يحافظ على كل ما نسميه في عالمنا بالاساطير، و إن خالف هذا فسيعاقب، سارت الأمور بشكلٍ جيد حتى رفضتِ الفول والحمص، و أنتِ تعرفين نتيجة ذلك”.
صرخت آمنة بقوة حتى عادت إلى غرفتها نظرت يسارها فوجدت خالها يقف مذهولا، نظرت أمامها لتجد مريم واقفة بجانب السرير، و بسرعة خاطفة كانت آمنة قد انقضت عليها محاولة ضربها، صرخ الخال مناديا على أخته بينما حاول أن يمسك بآمنة
“اتركي الشيخ يا بنتي”
أيقظت هذه الكلمات آمنة فنظرت لتجد الشيخ ساقطا على الأرض و قد احمر وجهه ، داخت آمنة فسقطت مغشيا عليها من جديدة.
وقف الشيخ و قد عدل هيأته، ” ابنتكم هذه مجنونة و لن ينفع معها هذا”
ثم خرج تاركا الام و الخال واقفين في حزن و أسى.
———————-
في يوم خميس ماطر و بأحد أحياء بنغازي، كانت آمنة قد افترشت الارض في مسجد ذلك الحي، عرفها السكان منذ سنة تقريبا حينما ظهرت فجأة في الحي، حاولوا الحديث معها لكنها لم تكن تجب سوى باهزيج مثل عاشوراء عاشورتي و اللي ما تعطيش الفول، يحسن إليها سكان الحي من حين لأخر، و نظرا لهيأتها صارت نساء الحي تخيف الاطفال بها قائلة عنها “الغولة”، في ذلك الخميس امتزجت اصوات حفلةٍ ما بالجامعة قرب الحي، باصوات الاطفال و قد تحلقوا حول آمنة يغنون
عمتي الغولة فيش تديري
فتجيب هي
قاعدة نوكل في عويلي.
كل هذا كان تحت اصوات قطرات المطر بالخارج.
النهاية.
Comments