top of page

الفتاشة

ahmedobenomran

المكان : أحد منازل بنغازي , ليبيا الزمان : يوم الخميس الأول من محرم لعام 1439 هجري .

استيقظت من الصباح الباكر , طالعت تاريخ اليوم الثاني و العشرون من شهر سبتمر  , دخلت للحمام , توضأت ثم قامت لتصلي الصبح , بعد الصلاة تدخل المطبخ لإعداد الإفطار  تحاول جمع أفراد العائلة هذه الأيام على الإفطار قدر الإمكان قبل أن تعود المدارس , قاربت على الإنتهاء من اعداد الطعام فقامت لتوقض زوجها و الأبناء , انطلق أصغر الأبناء لجلب الخبز من المخبز المجاور , و ما ان عاد حتى اجتمعت العائلة كلها من كبيرها لصغيرها على الطاولة , أبٌ و أم , و ثلاثة أبناء كبيرهم ولد يبلغ من  العمر ثلاثة عشر عاماً بدأت علامات البلوغ بمداعبته فأصبح لديه صوتٌ يشبه صوت معزة تختنق و زغب يعتلي فمه , و أصغرهم طفلٌ في الخامسة من عمره يفضل اللهو بالطعام قبل أكله , تتوسطهم فتاة في العاشرة من عمرها ذات شعرٍ أسودٍ طويل , جلس الأفراد حول الطاولة يتناولون طعامهم و يتناقشون في أحداث الأسبوع , و قبل أن يفرغوا من الأكل , انتهزت الأم فرصة الإجتماع لتستفي باقي الأفراد حول وجبة غداء اليوم , وقبل أن يبدأ الصغار في الإدلاء بصوتهم قال الأب :” بما أننا في أول أيام السنة الهجرية , لابد أن يكون الغداء فتاشة “,  و الفتاشة هي طبق العشاء الذي ارتبط بأول محرم في قاموس العادات الليبية , المكون الرئيسي فيه هو الكسكسو أو (الكسكسي بلهجة غرب البلاد) مرفقاً بلحمٍ مقدد أو لحم رأس , ما أن سمعت الأم اقتراح زوجها حتى ظهر أمامها مشهدٌ لطفلة صغيرة في غرفة مظلمة تشد لحافها بقوةٍ و خوف و نظرات الرعب تخرج من عينيها , و صوت طفلٍ أتٍ من الغرفة المجاورة صارخاً ” آمنة , آمنة “,

“آمنة!” قال الزوج محاولاً منادة زوجته الشاردة , و قد نجح في ذلك إذ نظرت إليه آمنة بفزع , عاد مخاطباً اياها متسائلاً عن رأيها فقالت :” لكن الفتاشة وجبة عشاء لا غداء “. -“أعلم ذللك , لكن بحلول العشاء لن يكون أيٌ منا موجوداً هنا , كما أنني اشتقت لهذه الأكلة و قد رأيت أنه لا بأس من تغيير العادة و لو قليلاً لتناسب وضعنا الحالي “.

و لما رأت آمنة إصرار زوجها على هذا , كما رأت أن الأطفال ايضاً موافقون , أيقنت بأنه لا مناص من هذا فوافقت هي الأخرى على مضض , قام الجميع من الطاولة ليعاونوا الأم على تنظيف المطبخ , إلا (خالد) أكبر الأبناء فهو يرى بأنه قد كبر على هذه الأشياء , بعد المطبخ انطلقت الأم و ابنتها لتنظيف غرف المنزل بمساعدة بسيطة من الأب و انس أخر العنقود , أما خالد فهو في الخارج لا يدري أحدٌ ما يقوم به , .

لم تكن الأم كعادتها , بدت شاردة الذهن كثيراً , حتى انها جرحت اصبعها بينما كانت تقوم بتقيطع البصل لإعداد الغداء , لم يكن أحد بالمنزل حينها فقد خرج الكل من المنزل صحبة الأب لقضاء بعض الحوائج ,  غسلت يدها ثم اتجهت للحمام بحثاً عن لصقة جروح , أخرجت العلبة من الخزانة قامت بتضميد جرحها ثم نظرت فالمرأة لتجد صورة طفلة أخرى تشبه الطفلة التي رأتها في الصبح , لكن منظرها كان مرعباً أكثر , شعر أسودٌ طويل بدا تجعد من تأثير الرطوبة , ثيابٌ قديمة بيضاء مبللة ملطخة بالدماء , و بطن ذات شكلٍ غريب , فزعت آمنة من المشهد الذي رأته فخرجت مسرعة إلى المطبخ صارخة , أمسكت الهاتف و حاولت الإتصال بوالدتها , لكنها مالبثت أن أقفلت الخط , ثم عادت لتتصل و أقفلت مجدداً , ظلت على هذا تتصل و تقفل قبل أن يرن الهاتف دقيقة كاملة , ثم تنهدت تنهيدة عميقة , جمعت شعرها البني فوق رأسها مخفية جذوره السوداء , و انطلقت لإكمال إعداد الغداء . اجتمعت العائلة مجدداً على سفرة الغداء , أمامهم طبق الكسكسو باللحم المقدد , و توسط الطبق رأس خروف مقسومٍ لنصفين , جرت العادة في العائلة بأن يكون الأب أول من يأكل من الرأس ثم يقوم بتوزيعه على باقي الأفراد , قبل أن يبدأ الجميع بالأكل تسائلت مريم الطفلة الوسطى عن سبب تسمية هذا بالطبق بالإسم الغريب “فتاشة” , نظر نحوها الأب مبتسماً و اجاب : “كانت امهاتنا تقول لنا بأن من لا يأكل على العشاء في هذا اليوم ستزوره الفتاشة , تقوم بفتح بطنه و تفتش عن الكسكسو و اللحم , و ان وجدت بطنه فارغة ستقوم بملئها بالحجارة , ثم ستجره إلى البئر و ترميه هناك “.

هنا خرج صوت خالد المخنوق :” هذا كله كذب و خرافات “.

ابتسم الأب له ايضا و قال له :” نعم كانت طريقة ترغمنا به امهاتنا على الأكل “.

” كلا , ليست خرافات ”

قالت آمنة وهي تصيح بعد أن انحل شعرها ليتدلى حول وجهها و قد توسعت عيناها حتى بات مظهرها مرعباً ,  نظرت إلى خالد و قالت له موبخة :” إياك أن تقول أنها خرافات مرة أخرى “. لكن خالد لم يعجبه توبيخ أمه له  فصعد لغرفته معلنا اضرابه عن تناول الغداء و هو يقول :” العالم قد وصل للمريخ و انتِ مازلتِ تصدقين خرافات الاطفال هذه” حاول الزوج تهدئة زوجته ثم صعد محاولة إقناع ابنه عن قراره , لكن عناد المراهقين جعل خالد متمسكاً برأيه , بدأت الأسرة منقوصةً من خالد في تناول الغداء , يحاول الأب القاء بضع نكاتٍ لتلطيف الجو , لكن  آمنة لم تكن هنا , آمنة كانت تسافر في مخيلتها عبر الزمن لتعود ثلاثين عاماً إلى الخلف حين كان عمرها سبعة أعوام , الأول من محرم لعام 1409  , حينها كانت طفلة تجلس على العشاء مع امها و والدها , صوت طفلة أخرى يأتي من أحد غرف المنزل محتجاً على وجبة العشاء و رافضاً تناولها , لاحقاً بعد العشاء , ترى جسماً غريباً أحدب الظهر يسحب أختها من السريرالمجاور له , أختها تصرخ مناديةً لها , لكنها تظاهرت بأنها مثل باقي سكان المنزل , لا تسمع شيئاً , , ينتبه الشيء الغريب لها فتقوم بإغلاق عينيها , للحظات

تفتحخهما مجدداً فلا تجد شيئاً , صمت يغيم على المكان , قبل أن تنبعث صرخة من سقيفة المنزل , تتبعها اصواتٌ منادية , “آمنة , آمنة”.

تعود آمنة إلى الحاضر لتجد زوجها ينظر إليها و قد إنصرف الأولاد من المائدة ,

“هل أنتِ بخير؟” ,

يتسائل الزوج , هزت رأسها قائلة نعم , لم تستطع أن تخبر زوجها عن ما رأته , خشية أن لا يصدقها أحد , كما حدث قبل ثلاثين عاماً عندما أخبرت والدتها عن ما رأته بعد أن وجدوا أختها غارفة في البئر , أصر الكل على أن أختها كانت تسير و هي نائمة , و لذلك وقعت في البئر غريقة . أمضت آمنة المساء محاولة شغل تفكيرها بأي شيء , تارة تقوم بمشاهدة التلفاز , تارة تقرأ القرآن , تركت طبقاً صغيراً من الغداء في الفرن لعل خالد يجوع فينزل ليأكل , لكنه لم يفعل , بل خرج من غرفته قبيل المغرب و اتجه رأساً نحو باب المنزل خارجاً, خلفه نزلت مريم لتخبر أمها بأنها جائعة جداً , قامت الأم فأعطتها قطعة خبزٍ صغيرة بعد أن وضعت الجبن بداخلها , فاتجهت الصغيرة لغرفتها و لم تخرج منها من ذلك الحين , لم يعد إلا على تمام الساعة الحادية عشر , حين عاد رأساً إلى غرفته و بدأ بتصفح جواله و مشاهدة الفيديوهات عبر اليوتيوب , كانت الساعة بالتحديد الثانية عشر ليلاً إلا دقيقة حين توقف التطبيق فجأة , قام بضربه بضعة مرات , أغلق التطبيق و عاد لفتحه بضعة مرات قبل أن تشتغل أغنية (وين حوش بو سعدية ) لكن بسرعة عالية , تحقق من إعدادات اليوتيوب ليتأكد من أن أحداً لم يعبث بالسرعة , لكن الإعدادات كان عادية , نظر بتعجبٍ للجهاز بينما استمرت الأغنية ترافقها ضحكات أطفالٍ مخيفة , فتح جهازه و اخرج البطارية , فتوقفت الأغنية و توقف الجهاز عن العمل كلياً , أعاد تشغيل الجهاز و اوصله بالشحن , و أغمض عينيه لينام , .

فتحت الأم الفرن لترى إذا ما تناول خالد طعمه لكنا لم تجد الطبق , صعدت لغرفته و فتحتها ببطيء فرأت الطبق على المكتبة , ابتسمت بلطفٍ و انسحبت بلطفٍ متجهة نحو الحمام , احست بوجود رائحة غريبة فتفحصت المرحاض لتجد فيه اثار قي , قامت بتنظيفه في تعجب ثم دخلت غرفتها لتنام . أما مريم التي لم تخرج من غرفتها من بعد المغرب فقد كانت نائمة كحملٍ وديع , تعتلي البراءة معالم وجهها كذلك تعتلي فمها بواقي جبن , و فجأة , يدٌ تنقض على بطن مريم و ترفع قميصها , تفتحها بطنها ببطيء و تقوم بتفتيش معدتها , لم تشعر مريم بشيء حتى بدأت الفتاشة بوضع الحجارة في بطنها بعد أن لم تجد بواقي الكسكسو , تستيقظ مريم لتجد عجوزاً ذات وجهٍ رمادي شديد النحافة حتى ظهرت عظام الخد فيه , تكاد عينيها أن تسقط من مكانها , شعرها شديد البياض عكس ثيابها السوداء , تزين وجهها بوشمٍ أخضرٍ عُرفت به العجائز قديماً, حدباء ترتدي جرداً أسوداً غريب المظهر , ملئت  بطن التي بدأت في الصراخ بالحجارة حتى باتت عاجزة عن الحركة , و بدأت بسحبها نحو عربتها الواقفة بالخارج , وضعتها فوق الكارو رفقة مجموعة صغيرة من الأطفال ثم عادت إلى المنزل لتفتش باقي الأطفال , دخلت لغرفة أنس الصغير , شقت بطنه فوجودت أن كمية الكسكسو الموجودة به قليلة جداً هي حتماً ليست من وجبة العشاء , أغلقت بطن الصغير و عادت لعربتها فأنزلت مريم التي مازالت تصرخ لكن دون صوت يسمع , ادخلتها لغرفتها بعد أن أفرغت بطنها من الحجارة و أغمضت عينيها فصمتت الطفلة و نامت على الفور …. يتبع

6 views0 comments

Recent Posts

See All

الفتاشة 3 (هذا قنديل و قنديل)

هذه المرة كانت الأهزوجة مختلفة “اللي ما تعطيش الفول يصبح راجلها مهبول اللي ما تعطيش الحمص يصبح راجلها يتلمس ” يعلو صوت الغناء و تعلو...

عاشوراء عاشورتي (الفتاشة2).

استقيظت مريم في منتصف الليل مفزوعة تنظر ذات اليمين و اليسار بخوفٍ كبير و صراخٍ عالٍ , تبحث عن الشيء التي رأته قبل قليل لكنها لم تجد شيء ,...

Comments


bottom of page