الثامن عشر من فبراير لعام الفان وواحدٍ وعشرين، يوم الخميس، ” إجازة لوقوعه بين عطلتين”، عطلة الأربعاء كونه الذكرى العاشرة لثورة فبراير، وعطلة الجمعة، لسببٍ ما قررت منذ مساء البارحة أن أخرج باكراً لشرب القهوة على البحر، بعد ثلاثة ايامٍ غائمة، ممطرة شديدة البرودة، قررت الشمس أن تطرد جزءاً من الغيوم اليوم لتعطينا يوماً مشمساً شبه دافئ، لسبب توقفت كثيراً أمام منزلنا ابحث عن اغنية قديمة ادندنها منذ البارحة، انطلقت بسيارتي مع انطلاق الأغنية احاول تجنب برك المياه المنتشرة في شارعنا، يقول الموروث الشعبي بأن أخر أيام البرد قد مرت في الأيام الماضية، ينتهي الشتاء بمرور قرة العنز منتصف فبراير، تأتي بعده نزول الجمرات، جمرة الهواء والماء والأرض، ماهي الا ايام وتبدأ حرارة الهواء في الإرتفاع، تلحقها حرارة الماء و الأرض، لا يفصل بيننا و بين جفاف هذه البرك سوى سقوط هذه الجمرات و هطول أمطار مارس، الذهب الخالص، وفقاً لذات الموروث، الربيع قادمٌ يا فان جوخ، ولكن هل ينتهي البؤس معه؟، حالياً البؤس بالنسبة لي هو هذه الحفر التي أخشى أن تضر بسيارتي.
تنتهي الأغنية قبل دخولي للطريق السريع، أعيد تشغيلها قبل أن أغلق النافذة صاداً الرياح التي ستسرع لداخل السيارة نتيجة إسراع السيارة، أجد نفسي شارداً بين كلمات الأغنية وذكرياتها التي تحضرها مع كل ثانية فيها، أمر بجانب مدرستي الثانوية، أعود بذاكرتي للوراء:
الخميس 17\2\2011
اليوم الموعود الذي تحدثت عنه إحدى صفحات الفيسبوك، انتفاضة الأحرار، أذكر نقاشي مع العائلة عندما إكتشفت الصفحة مطلع فبراير، لم يكن الإيمان بحدوث شيءٍ ما في هذا اليوم كبيراً، “من اللي يبي يطلع؟ جيلكم انتو؟”، خرجنا صباحاً نحو المدرسة، كانت بنغازي هادئةً شبه نائمةً كعادتها في هذا الوقت، لا شيء غريب في شوارعها سوى سيارات الأمن المنتشرة في كل مفترق طرق، قبل يومين خرجت مظاهرة تطالب بالإفراج عن ناشيطَيْن من رابطة أهالي ضحايا مذبحة بوسليم، إعتقلهما النظام في خطوة إحترازية فخرجت مظاهرة يذكرها البعض على انها الشرارة لما حدث بعد ذلك، اكتشفنا لاحقا أن مظاهرة أخرى خرجت تجدد البيعة للقائد في اليوم التالي، يوم الأربعاء السادس عشر من فبراير، وصلت مدرستي الخالية كعادتها في هذا الوقت، طيلة أيام دراستي اعتاد أبي ان يوصلنا مبكراً حتى يتفادى ساعة الذروة والازدحام، هي عادة اكتسبتها انا منه لاحقاً فصرت اطبقها في عملي، كنت حينها في الصف الثالث الثانوي، ورغم أن مدرستي تضم فصلان للصف الثالث، إلا أن عدد الطلبة الذين جاؤوا يومها كانوا ستة فقط، دار بيننا نقاشٌ حول الخروج في ذاك اليوم، هي المرة الأولى التي نناقش فيها شيئاً من هذا القبيل علانية، رن جرس طابور الصباح، فوقفنا نحن طلبة السنة الثالثة في صفين، في كل صفٍ ثلاثة طلبة، صفٌ مؤيدٌ لحكم العقيد، وصفٌ مؤيدٌ لما هو قادم، كنت ثالث الثلاثة في الصف الثاني، بدأ الطلبة في غناء النشيد الوطني،”الله أكبر”، رفض من في صفنا الغناء، وقفنا صامتين ننظر للأمام رافضين النظر للراية الخضراء تُرفع، طلب مدير المدرسة من طلاب السنة الأولى والثانية الدخول لفصولهم، نظر نحونا نحن الستة وقال لنا اتصلوا بأولياء أموركم فلا دوام لكم اليوم، كان الطريق السريع شبه خالياً على غير عادته في هذا الوقت، بضع سيارات أمنٍ تمر بين الحين والأخر، جائني والدي صحبة صاحبه، و إنطلقنا.
تعمدت اليوم أن أصل للبحر عبر شارع الشريف رغم كل شيء، رغم رداءة الطريق المدمرة، رغم ركام المباني المهدمة نتيجة الحرب، كانت الشمس قد زادت الجو دفئاً عند اقتراب الظهيرة، لاح لي البحر في نهاية الشارع المرتفع، يكاد يكون الشارع خالياً، مررت بأحد مداخل سوق الجريد قبل خروجي من الشارع من يرى السوق والشارع في هذه سيظن انهما مهجوران من عقود، قبل عشر سنواتٍ مررنا بهذا الشارع بعد خروجي من المدرسة رفقة والدي وصديقه، يومها، كانت قوات الدعم المركزي تقف عند مدخل الشارع من ناحية ضريح عمر المختار فيما احتمى مجموعة من الفتية داخل الشارع محاولين استدراج قوات الدعم لداخل الشارع، كأنني أرى خيالتهم اليوم عندما مررت به، كما انني أرى خيالات آخرين عند المطعم التركي في شارع جمال، يلفون اقمشة خضراء حول أعناقهم، يرتدون خوذ بناء صفراء، أمامنا توقفت سيارة شيفروليه أوبترا بيضاء معتمة الزجاج، خرج من أحد نوافذها يد كيسٌ اسودٌ بدأ راكب السيارة في إفراغ محتوياته من علب سجائر محلية الصنع من نوعية رياضي، وقبل أن تلمس أول علبة الأرض كانت أيادي الواقفين تتسارع لتمسك ما يمكن أن تمسكه، أمامنا بقليل إجتمعت مجموعة أخرى مِنْ مَنْ سيُعرفون لاحقاً بإسم “القبعات الصفراء”، كانت هذه المجموعة مجتمعة عند المثابة الأم، لا أذكر إذا ماكانت تلك المجموعة واقفةٍ في صمت أو انهم كانوا يتهفون بشيء، ما أذكره هو أننا تابعنا السير في شارع جمال و عند كل شارعٍ فرعي كانت هناك مجموعة من الشباب تقف وتنظر نحو المثابة، كان الوقت حينها وقت غداء، أصر صديق رفيق والدي على أن نذهب معاً لمنزله لنتغدى معاً.
جلست عند الكورنيش بعد أن أحضرت قهوتي من مقهىً قريب، بجانبي كتابٌ أطمع في قرائته، جلست اناظر بحر الشابي من هنا إنطلقت بنغازي منذ قرون، هنا وُلدت هذه الجميلة اليتيمة، من خلف البحر ومنارة إخريبيش نبتت منازل واحياء نمت حتى شكلت المدينة من خلفها، رغم إختلاف الأزمان و الأماكن، يبقى البحر منفساً للمدينة و أهلها، ربما لهذا جئت اليوم، لعلي كنت أريد الترويح عن نفسي قليلاً، البحر أمامي، اخريبيش ورائي، و بضعة طيور نورس تحلق من فوقي، طيور النورس حاملة البشرى للبحارة قديماً، يفرحون لرؤيتها، فطيور النورس لا تطير بعيداً عن اليابسة، ورؤيتها في البحر يعني إقتراب اليابسة للبحارة، وكفرحة البحارة لرؤية النورس قديماً فرحنا نحن منذ عشر سنوات عندما كان نجلس في فناء منزل رفيق والدي، تبادر لمسامعنا هتافٌ يأتي من بعيد، لم نتمكن من فهم الهتاف، يقترب الهتاف شيئاً فشيئا، ومع كل ثانية كانت الهتاف يبدو أوضح، حتى سمعناها واضحة عالية كأن لاصوت في الجوار سواها، كان كل شيء قد التزم الصمت إحتراماً، أو خوفاً
“الشعب يريد إسقاط النظام”
مظاهرةٌ إنطلقت من محكمة الجنوب في الماجوري، تجوب الأن الطريق الدائري الأول (شارع دبي)، أخرج رفيق والدي صناديق مياه من منزله، باشر أفراد منزله في توزيعها، انشغلت انا في تصوير ما يدور، ركبنا السيارة نلحق بالمظاهرة، سبقنها إلى مفترق شركة الخليج، ككرة ثلج يزداد حجمها زاد عدد من في المظاهرة، يستلق البعض منهم أعمدة الإنارة لإزالة أعلامٍ خضراء كانت فوقها، يلثمون وجوههم بها، تخيل أن تصبح رايتك أداة في يد اعدائك، قالوا بأن المظاهرة متجهة لمحكمة شمال بنغازي، عدنا للسيارة من جديد نحاول الوصول للمحكمة عبر طرقٍ مختصرة، مررنا بالمحكمة التي تحاوطها سيارات الشرطة من كل إتجاه، مررنا بالمحكمة سريعاً قبل ان نعود أدراجنا نحو منزل رفيق والدي مجدداً.
لم أتمكن من التركيز في الكتاب الذي امامي فأدرت ظهري للبحر لأنظر نحو المباني المقابلة، للعمارات المهدمة المهجورة، للدمار الذي حل بكل شيءٍ هنا متذكراً بضعة ذكرياتٍ من طفولتي هنا، هنا كنا نأتي في كل يوم مولدٍ نبويٍ رفقة أبي وجدي وخالي قاصدين الزاوية الرفاعية، نحاول في كل مرة أن نأتي باكراً لنحصل على حلوى الزاوية، ثم نخرج بعد ذلك لنجلس عند البحر، رحلت الحلوى، ورحل جدي، ثم رحلت الزاوية و تساوت بالأرض، لم يبق من كل هذا سوى البحر، سنرحل نحن، وترحل ذكرياتنا معنا، وتبقى انت يا بحر هنا، قبل عشر سنواتٍ في بنغازي كان المشهد غريباً، مجموعة من الشباب يخرجون من كل حدبٍ وصوب، يهتفون بإسقاط النظام، في ذات الوقت، مجموعة من المحاميين يعتصمون أمام محكمة الشمال يطالبون ببعض الإصلاحات السياسية وصياغة دستورٍ لليبيا كما كان يعد الأخ الأكبر سيف الإسلام، يقول قائلٌ بأن خروجهم هذا كان بالتنسيق مع الأخ الأكبر لإمتصاص غضب الشعب، يقول أخر بأن هؤلاء قاموا بطرد مجموعة من المواطنين هتفوا لإسقاط النظام بحجة أن إعتصامهم للإصلاح، في ارجاءٍ أخرى من بنغازي إنتشرت مجموعة من الخيام تحمل لافتاتٍ من نوع، قبيلة الفلان درع ثورة الفاتح، قبيلة العلان تساند الأخ قائد الثورة، لم تكن الخيام حصراً لقبائل معينة، بل كانت لكل قبيلة خيمة، وكل الخيام تعج بشيوخ قبائل شريفة يدافعون عن قائدهم الأممي وصقرهم الأوحد
“أولاد القطة لا أستثني منكم أحداً”
كما قال الشاعر مظفر النواب ذات يوم، خرج رفيق والدي من بيته غاضباً، إتصل إبن عمه اللواء، أحد رجالات القذافي و اصدقائه المقربين الذي ظلوا معه حتى الرمق الأخير، إتصل بهم يعاتبهم على توزيع المياه وإعطائها للأعداء كما وصفهم، خرجنا مرة اخرى في جولة عشوائية، مررنا بكوبري راس اعبيدة، شدنا ألهبة النار المتصاعدة من تحت الكوبري، وقفنا جانباً لنرى مالامر، اشعل بعض الشباب النار في مركز شرطة راس اعبيدة، و اشعلوا بعد ذلك النار في خيمة إحدى القبائل، تابعنا سيرنا للمحكمة، كان الليل قد حل، الرياح الباردة تخرج عاتية قوية من البحر تضرب وجوهنا، لكن الجو كان دافئاً، رحل المحامون وحل محلهم مجموعة من المواطنين، مايزال الهتاف يخرج عالياً من حناجرهم
“الشعب يريد إسقاط النظام”
وقفنا بعيداً عن المتظاهرين بقليل، كنت يومها أغطي وجهي بشالٍ أخضرٍ يشبه الكوفية الفلسطينية كنت قد اشتريته قبل عامٍ عندمما كان إرتدائه مساندة ودعم لغزة المحاصرة، غطيت وجهي به يومه خوفاً من البرد، ومن أشياءٍ أخرى، إقترب من أحدهم قائلاً
” حوله يا شاب معاش فيه خوف خلاص”
لا أذكر شيئاً بعد هذا سوى أنني كنت أقف في وسط الجمع أصيح معهم وقد أزلت الوشاح عن وجهي، وكانت هذه نهاية اليوم،
في اليوم التالي إجتمع الناس عند المحكمة من جديد، صلو صلاة الجنازة على من سقط البارحة، وإنطلقوا يشييعونهم، عرفنا لاحقاً أنه في الوقت الذي كان فيه أولاد القطة يعتصمون عند المحكمة ويجلسون في خيام التأييد التي صارت خيم عزاء للعقيد، كان شباب بنغازي المتظاهرين يسقطون قتلى، وأن تلك المظاهرة التي مرت من أمامنا تمت محاصرتها عند كوبري جليانة، لاحقاً وبينما كان الشباب يحاول إسقاط كتيبة الفضيل أخر مراكز العقيد في المدينة، كان أولاد القطة هؤلاء يشكلون جسماً لقيادة الثورة، وصاروا لاحقاً الغطاء الشرعي والمجتمعي للثورة، بينما صار الشباب سلماً لهم يركبونه، حطباً يحرقونه حتى ينير طريقهم هم
“اولاد القطة لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزيرٍ أطهر من أطهركم”
عشر سنواتٍ مرت على كل هذا، عقدٌ من الزمن مر علينا دون أن نشعر، عِقِدٍ سرق من بين أيدينا دون أن نشعر، كنت قبل عشر سنوات طالباً ذا سبعة عشر عاماً، و ها أنا اليوم رفقة ابناء جيلي صرنا كمن في السبعين من عمرهم، سُرِقت منا سنواتٌ قيل بأنها ستكون الأجمل في حياتنا، سلبها منا مجموعة من اولاد القطط الذين زادوا في أعمارهم عشر سنواتٍ أخرى، عدت نحو سيارتي من جديد، عادت ذات الأغنية من جديد
“اذكرني وعلم الإستقلال فوق عليه”

الصورة لحرق المثابة الثورية (المثابة الأم) بنغازي يوم الثامن عشر من فبراير 2011
Comments