احد أسابيع رمضان لعام 2022 ميلادية، في مدينة بنغازي الساحلية التي يحاصرها المتوسط من الغرب والشمال كما تحاصرها ذكرياتنا، بعيداً عن ضوضاء المدينة وازدحامها في رمضان وعشوائيتها التامة المتمثلة في محل ملابس تقف أمامها بسطة تبيع الزلابية والألعاب، في مقهىً تُفتح أبوابه قبل العِشاء بقليل، ساحةٌ صغيرة تعج ببضعة شُجيراتٍ وعددٍ من الطاولات زُينت نوافذه وأبوابه بأضواء زينة إبتهاجاً برمضان في عادةٍ أخرى جديدةٍ على هذا البلد
-“شفت روسيا؟”
سأل أحد الأشخاص الجالسين على إحدى الطاولات زميله الجالس بجانبه
يرد عليه زميله قائلاً:
-“مالك ومال روسيا، أنت شفت سوق الخضراء؟”
يرشف زميله من قهوته قبل أن يقول:
-“الحرس البلدي فرض عليه تسعيرة، كيلو الطماطم بثلاثة؟”
-“وقت ما يقعد التاجر شاري الجملة من مصر بخمسة الكيلو كيف يبيعه بثلاثة ؟”
-“وشدخل مصر؟”
نظر نحوه الثاني باستغراب قائلاً:
-” وخضرتك من وين يا يوسف؟”
أسند يوسف بظهره إلى الكرسي مُفكراً في المعلومة التي تلقاها للتو
“يعني نحن ما عندناش زراعة؟”
تسائل يوسف مستغرباً
“وين تبي تزرع، في الجبل اللي تفحم ولا في مشروع الصفصفة جنب العمارات؟”
أجابه سالم قبل أن يضيف قائلاً
-“تعرف فكرة، يزرعوا جنب العمارات وتقعد وزارة الزراعة والإسكان”
صمت الاثنان معاً لوهلة، جلس يوسف يدخن يحاول أن يجد حلاً لهذه المشكلة من مقعده هذا، عاود زميله للحديث قائلاً:
-“في الإعدادي، كانت مدرستنا قريبة من مطعم شعبي، كان يبيع الفردة (الرغيف) بدينار، حاولت إدارة المدرسة منعنا من الذهاب إليه بشتى الطرق، أخر حاجة صكروا باب المدرسة ومنعونا من الخروج وقت الإفطار، والحل كان في مقصف المدرسة سيء المذاق، صار صاحب المقصف يشتري من المطعم بدنيار ويبعنا ذات الرغيف بدينارٍ ونصف”
-“وشن صار؟”
-“واحد من الطلبة حكى للإدارة قاللهم بابا يعطي فيا دينار للفطور بس”
-“وشن قالت الإدارة”
-“خلي بابا يزيدلك الفلوس”
ضحك الصديقان قليلاً قبل أن يعود يوسف للحديث قائلا:
-“وليش ما يزيدلنا الفلوس بابا”
-“مش راضي علينا”
قالها ناصر وهو يمد يده نحو كوب القهوة الموضوع أمامه مستمعاً لضحكة يوسف، يقترب منهم في هذه الأثناء شابٌ أخر يحمل في يده كوباً كرتونياً و قارورة مياه،
-“شن يضحك فيكم”
طرح الشاب الثالث سؤاله بينما يهم بالجلوس، قبل أن يجيبه يوسف:
-” نحكو عالخضرة”
أمسك الشاب الثالث ظرف سُكر
هزه كثيراً
فتحه
ثم رمى بما فيه في الكوب
يُمسك عوداً يحرك به ما بداخل الكوب
ينظر نحوه ناصر بتعجبٍ قبل أن يقول له:
“أنا لا أشرب القهوة بسكر”
نظر الاثنان نحو ناصر بكثيرٍ من علامات الاستفهام والحيرة قبل أن يدرك الشاب الثالث ما يجري
“قهوتك قصدك؟”
ضحك الثلاثة معاً قبل أن يقول ناصر:
-“مازلت صايم يا سلومة شكلك”
يُخرج سالم عُلبة سجائر من جيبه يسأل صاحبيه بعد أن أشعل سيجارته وسحب منها نفساً قائلاً:
-” الشربة الكم هذا؟”
يجيبه يوسف قائلاً:
” ال15 أو ال16″
يهم سالم بالحديث قبل أن يقاطعه صوتٌ قادمٌ من الخلف
-“توا يا جماعة هذي دبل؟”
ينظر الثلاثة نحو مصدر الصوت باستغرابٍ و وجوههم تقول نفس السؤال “ماخطبك؟”
يجلس صاحب الصوت ناظراً للكوب، يناكفه ناصر قائلاً:
“وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته”
ينظر نحوه صاحب الكوب مرتبكاً قائلاً:
-“سامحوني لكن هذا دوخني، قتله اكسبرس دبل عطاني هذي”
يعود الثلاثة لصمتهم متجاهلين مداخلة محمد المُعتادة، يُمسك كلٌ منهم بهاتفه، في رمضان، وفي غيره إحقاقاً للحق، تتكرر جلسات المقهى هذه كثيراً حتى تصير روتيناً يومياً، تتغير الأجواء وألوان الأكواب الموضوعة على الطاولة، تتغير الطاولة أحياناً وتبقى الوجوه الجالسة عليها كما هي، باختلاف ملابسهم وفقاً لحالة الطقس، يكسر سالم الصمت بسؤاله الذي كان يبغي سؤاله قبل أن يقاطعه محمد قائلاً:
-“يا جماعة، رمضان تغير ولا نحن اللي تغيرنا؟”
ينظر الآخرون نحوه منتظرين منه أن يسترسل أكثر في الحديث حتى يفهموه أكثر فيكمل هو حديثه قائلا
-“لم أشعر بأجوائه هذه السنة، ما حسيت أنه رمضان، لا في الشوارع، لا في وجوه الناس، حتى التروايح استغفر الله”.
يبتسم ناصر هنا عائداً بذاكرته لسنواتٍ مضت
-“ذكرتني زمان، كنت نصلي انا والشايب في جامع البوسكو، كنا نصلو العشاء و أول ركعتين من التروايح عشان نعرفوا أي جزء واصلين فيه، وبعدها نطلعو للشارع نضايقو في عباد الله، نوقفوا سيارة ونقولوه نبوا القوارشة معانا جنيه، وعلى وقتها القوارشة كانت نهاية العالم، وأول ما نسمعوا الشيخ قال (سبح اسم ربك الأعلى) نجروا للجامع عشان يشوفونا في الشفع والوتر”
يمازحه يوسف بابتسامةٍ:
-” وتوا تقول عالجيل الجديد جيل خارب”
يضحك الجميع على طرافة الموقف، أو فقط تماشياً مع السياق، يسأل يوسف بينما يخف الضحك قائلاً
-“في حاجة كانو يقولو فيه بين الركعات..”
-“سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لنا”
يقاطعه سالم مُلحناً ما قاله للتو، يضرب يوسف يده بيد سالم وكأنه يحييه على انتصاره على هذا النسيان الذي أصابه هو، يقاطعهم محمد متذمراً هنا
-” بالله هذي مسميها اكسبرس؟”
يعود ناصر متحدثاً عن ذكرياته وكأنه لا حديث لها سواها
-“كان في كرسي لوح في الجامع هذا كان تقوم القيامة ما يقربه حد، كان شور سي سعد، وربي يطول في عمره كان عنده صوت تسمعه من الشارع لما يقول وبحمدك اللهم”
ينطلق يوسف متحدثاً عن ذكرياته هو الأخر فيتحدث عن بضعة ليالي من رمضان كان فيها والده يصحبهم بعد التروايح في جولة بين شوارع وسط المدينة (البلاد)، ومن المرجح أن تلك المنطقة حازت على هذا الإسم عندما كانت هي المركز وكل ما جوارها هو من الضواحي، فعاش الاسم معها وظل ملتصقاً فيها حتى بعد أن لم تعد بلاد، يحكي يوسف عن جولتهم التي كان يتخللها جولةٌ في شارع عمر بن العاص ثم جلوس على الكابرتنية بالقرب من الكاتدرائية
-“الجامع”
يصحح له ناصر ما قاله عن ذلك
-“صح نسيت”
يوافقه يوسف في ذلك قبل أن يتوقف قليلاً ليتسائل:
-“شن كانت هي أصلاً؟”.
-“بنوها الطليان كاتدرائية، وقلبوها مقر للاتحاد الاشتراكي أيام معمر”
يجيبه سالم باختصار ثم يضيف ناصر:
-” وحمام عمومي لها سنين”
تخرج ضحكاتٍ خفيفة من الجالسين على الطاولة قبل أن يكمل سالم كلامه:
-“و أول إعدام علني في بنغازي كان في ساحتها، بس عيبهم ينسوا”
يقف محمد سائلاً الجميع:
“حد يبي حاجة من جوا؟”
-” خاش جوا؟”
سأله سالم، ورغم حماقة السؤال قليلاً إلا أن محمداً أجابه بالتأكيد،
-“شن تبي تجيب؟”
سأل سالم
-“اكسبرس دبل”
أجاب محمد، ولم يطلب سالم شيئاً، ولا أيٌ من الجالسين، فهذه الأسئلة أحياناً تكون بدون هدف، هي فقط أسئلة.
-“تي خطررهاااا”
قالها سالم بعد أن تذكر شيئاً للتو، وانطلق يتحدث بعد لفت انتباه الجالسون بجانبه
-“بعد العصر كنت طالع من غذائية وقدامي وحدة، والحق كانت طالقة شعرها بس محترمة..”
-“غريبة طالقة شعرها بس محترمة”
علق يوسف على جملة صديقه ساخراً
-“المهم”
عاد سالم للحديث دون أن يكترث لهذا التعليق
-” البنت وقفت على سيارتها وانا كملت لسيارتي، نسمع واحد قال (رمضان وانتن مخربات صيامنا)، وما نفطن لروحي الا ونقوله (تحشمو رمضان وانتوا لا تعرفو لا عيب لا حرام)”
-“باه”
علق بها ناصر مشيراً لصاحبه بأن يُكمل حديثه
-” وبرمت ظهري ونلقى اللي قالها واحد في سيارة عالية”
-“لا يا راجل شن صار؟”
قال يوسف
أجابه ناصر قائلاً:
-” لا الحمد لله كبر عقله، قبل نبي نقوله سامحني عاكس زي ما تبي”
-“لا حمد لله على سلامتك يا طير..”
-“توا يا جماعة هذي كيف، معقولة هذي اكسبرس دبل؟”
عاد محمد من جديد حاملاً كوباً أخر ومتذمراً مرة أخرى من رداءة القهوة، جلس على كرسيه ينظر للكوب بقليلٍ من الغضب.
-” عارف يا احميدة ليش يعطي فيها لك هكي؟”
سأله ناصر فأعطاه محمد انتباهه منتظراً إجابته، فأكمل ناصر كلامه معطياً إياه الجواب
-“عشان اسمه اسبرس مش اكسبرس”.
Comentários